صحيح أن شبكات المواربة، سواء بالإقصاء أو التحجيب أو التصنيع، تطرح رهاناتها وتنشر موجاتها الضبابية على المجال العام للأوطان، اختراقًا وتعمية, استلابًا لوجودها، بوسائل سيطرتها الاستيهامية التى تستهدف طرد الحقيقة، بتنظيم استمرار طردها، حتى تبتلع شبكات المواربة كل ما مضى وكل ما يأتي؛ إذ من المحظور أن تسكن تلك المجتمعات ذاتها، أو ترتفق بحقيقة وجودها فى ظل بنيتها المعرفية؛ بل لابد أن تتبدى تلك الأوطان شاردة، ومن حولها يحيط بها صناع وجودها الزائف، والمشاع، والمتغاير، المناقض لحقيقتها، حتى يصبح ذلك البديل اللاعب الأوحد بسلطان التكاذب فى توجيه تاريخ تلك المجتمعات. وصحيح كذلك أن شبكات المواربة تلك راحت تمارس دس استيهاماتها الزائفة بين مجتمعات الشرق الأوسط المعاصر، بأن صراعاتها الحالية هى نتيجة هيمنة صراعات حضاراته المندثرة، التى عايشتها شعوبه عبر مسار تاريخه، فأسست لإنتاج أحداث تاريخه المعاصر؛ حيث أعادت تلك الصراعات القديمة إنتاج ذاتها؛ لذا أصبح الشرق الأوسط أسيرًا لصراعاته الدائمة والخالدة، التى تعمقت لتتبلور جزءًا من هويته بنزوعها المسيطر نحو استعادة الماضى واستحضاره، فانغلق الشرق الأوسط على ذاته ضد المستقبل تحرسه ثقافة ساكنة، شكلت غيابًا جذريًا للتواصل والتبادل، تجلى فى الحروب بين دوله بأعراقها المختلفة، ومواجهات أهلية مذهبية بين مجتمعاته, بل إن هذه النزعة حكمت أيضًا علاقاته بالعالم الخارجي. لكن الصحيح أيضًا أن الباحث الأيرلندى الأصل فريد هوليداى، المختص بقضايا الشرق الأوسط، رفض ذلك التصور بوصفه نمطًا من الأوهام المسبقة المستدامة الزائفة والمضللة، فى تفسير أسباب الصراعات المعاصرة فى الشرق الأوسط بما هو عليه بكياناته الحديثة، وسياقات أنظمته التى تصوغ صراعاتها ظروفا موضوعية مغايرة. صحيح أنه لابد من البحث عن القوى الاجتماعية الكامنة وراء الاضطرابات التى أفقدت الشرق الأوسط استقراره الدائم، لذا فإن الكاتب يرى فى تلك الأوهام المستعادة، أنها تعد مرجعية أساسية، تستوجب الرصد والتحليل لأى دراسة موضوعية لاستطلاع مستقبل الشرق الأوسط؛ وقد أورد المؤلف فى كتابه «مائة وهم حول الشرق الأوسط» وتناول بالتحليل هذه الأوهام، كاشفًا عن زيفها، فاضحًا استثمارها وتعميمها بما يسمح باستمرار تلك الأوهام، تبديلاً لأسباب الصراعات والأحداث التى شكلها السياق التاريخى والدولي، فى ظل خضوع مجتمعات الشرق الأوسط للغرب، وذلك ما يخلق تكتلاً وهميًا يقود إلى الوعى الخاطئ، وقد أورد الكاتب وهمًا مفاده أن سياسات دول الشرق الأوسط يجب فهمها على أنها كانت- وربما ما زالت إلى اليوم - ثمار مؤامرات، وأجندات سياسية غير منظورة، ومخططات، وأيادى، وترتيبات، وتدليس بعيد النظر من قوى دخيلة هى عادة القوى الغربية، فهل يمكن أن يعد ذلك وهمًا كما يعتقد الكاتب؟ يؤكد الكاتب فى تحليله لهذا الوهم أن سياسات الشرق الأوسط عرفت مخططات ومؤامرات فى القرنين الماضيين، كما يجزم بحدوث المزيد، لكنه يعود لينفى هذا الاعتراف باتخاذه موقفًا ينبذ الخضوع لوهم نظرية المؤامرة، حيث تشكل منحى من التفكير يراه فخًا يقود إلى أمرين، أولهما: اللجوء إلى التحليل الوهمى غير الواقعى الذى يجافى المحاجة القائمة على البرهان والإثبات، وثانيهما: أنه يرفع المسئولية عن الممثلين السياسيين للأنظمة المحلية فيما يحدث من نتائج الأحداث. لكن لأن العلم يقهر الوهم الذى لا يفتأ الجهل ينتجه ويعيد إنتاجه، ولأن العلم يحمى من التورط فى تدابير متهورة؛ لذا فإن أسباب تحفظات الكاتب لنبذ نظرية المؤامرة تتجلى حججًا فاسدة، خاصة فى مواجهة حماية حق الوطن فى أمنه، الذى يستوجب أن تحرسه رؤية سياسية لا تضعف مناعته، ولا تستخف بالتزاماتها، وتستند إلى آليات استشارية مفتوحة على الاستقصاء، والاستطلاع، وتستثمر طاقة اقتدارها المعرفى العلمى والعقلانى فى تحديد ما يشكل أى عامل تهديد خارجى لأمن الوطن، فتلتقطه ولا تنتظر الإثبات حتى يصبح حقيقة واقعة يصعب استدراكها، إذ الأفكار لا تقرأ وحدها؛ بل فى ضوء معطيات الحكمة المثيرة للأسئلة، المحصنة بالعلم الذى لا يهمل، أو يحذف أى دلالات تطلب تفسيرًا فى عالم تتعدد ألاعيبه، وأيضًا جهات تصديرها، سواء أكانت دولاً أم نخبة عالمية مسيطرة، وذلك ما يفرض حالة الاستنفار الدائم لمواجهة تضليلاته واختراقاته، بأجنداته، ومخططاته غير المنظورة. إن مسيرة تقدم دول الشرق الأوسط والعالم الثالث كانت تعترضها مسيرة موازية تشكلها الدول الاستعمارية المهيمنة، انتهاكًا لثرواته، لكن فى عالمنا المعاصر ظهرت قوى جديدة متعددة الجنسيات لنخبة مسيطرة، تعمل داخل سياق شبكة عبر العالم، كشف عن وقائع مؤامراتها، الكاتب الأمريكي، دافيد روثكوبف، فى كتابه «الطبقة الخارقة» إذ وحدها تسيطر هذه النخبة المتسلطة بنفوذها على مصير العالم السياسى والاقتصادي، تستوطن كامنة فى الظل، وتنقض بانعطافاتها الحاسمة، فتقلب أوضاعًا، وتنتهك مقدرات شعوب بالقتل، والسطو، وإشعال الحروب، وتضم عددًا من رؤساء الدول، والمديرين التنفيذيين لأكبر شركات العالم، وأباطرة الإعلام، وأقطاب التكنولوجيا، وأصحاب المليارات فى مجال الاستثمار، والمستثمرين فى الأسهم الخاصة، وصفوة القادة العسكريين، والقادة الدينيين، والكتاب، والفنانين؛ بل كبار المجرمين، ولم يخف المؤلف أسماء هذه النخب فى مجالاتها المختلفة، وأصبحت القوة فى أيدى تلك المجموعات غير الرسمية من النخب، التى استحوذت على النفوذ المالي، والسياسي، والفكري، والإعلامي، ونفوذ القوة، والتكنولوجيا. إن المؤلف يشير إلى الكتاب بوصفه يغطى فراغًا فى الكتابة عن الفجوة فى السلطة، رغم الوفرة فى الكتابة عن تلك الفجوة المالية فى العالم والمجتمعات والدول، والسلطة التى يتناولها الكتاب ليست الحكم والإدارة؛ بل السلطة بمعنى الثروة والنفوذ كقوة اكتساح، إذ أصبحت الشفافية يتم الغدر بها عيانًا وجهارًا على مستوى العالم. لا شك أن هذه النخبة بشركاتها تعد وباءً لا مرئيًا؛ إذ تجرد الأوطان من استحقاقاتها بممارستها لأكبر سطو فى التاريخ، بالسطو على المعرفة وانتزاعها من حارسها الوحيد وهو العقل، بهدف فرض ديمومة لتلك الحرب لتدوم وتستمر. لقد سقطت الأوهام القديمة فى السيطرة على العالم، وأصبحت فى أيدى مجموعات غير رسمية من تلك النخب. ترى هل يمكن أن تستنفر شعوب الشرق الأوسط وعيها وإرادتها دفاعًا عن وجودها، أو أنها سوف لا تخضع لنظرية المؤامرة، وتنتظر البرهان والإثبات؟ لمزيد من مقالات ◀ د. فوزى فهمى