تشخص صراعات الشرق الأوسط المعاصر بأنها نتيجة هيمنة صراعات حضاراته المندثرة، التي عايشتها شعوبها عبر مسار تاريخها، فأسست لإنتاج أحداث تاريخه المعاصر، فأعادت تلك الصراعات إنتاج ذاتها، وأصبح الشرق الأوسط أسير صراعاته الدائمة والخالدة التي تعمقت، لتتبلور جزءاً من هويته بنزوعها المسيطر نحو استعادة الماضي واستحضاره فانغلق الشرق الاوسط علي ذاته ضد المستقبل تحرسه ثقافة ساكنة، شكلت غياباً جذرياً للتواصل والتبادل، تجلي في الحروب بين دوله بأعراقها المختلفة، ومواجهات أهلية مذهبية بين مجتمعاته، بل ان هذه النزعة حكمت أيضاً علاقاته بالعالم الخارجي لكن الباحث الايرلندي الأصل »فريد هوليداي« المختص بقضايا الشرق الأوسط، يرفض ذلك التصور بوصفه نمطا من الأوهام المسبقة المستدامة الزائفة والمضللة، في تفسير أسباب الصراعات المعاصرة في الشرق الأوسط بما هو عليه اليوم بكياناته الحديثة، وسياقات أنظمته التي تصوغ صراعاتها ظروف موضوعية مغايرة. صحيح ان الكاتب يري في هذه الأوهام المستعادة، أنها تعد مرجعية أساسية، تستوجب الرصد والتحليل لأية دراسة موضوعية لاستطلاع مستقبل الشرق الأوسط، وصحيح أيضاً أنه في كتابه »مائة وهم حول الشرق الأوسط« حلل هذه الأوهام، كاشفاً عن زيفها، فاضحاً استثمارها وتعميمها بما يسمح باستمرار تلك الأوهام، تبديلا لأسباب الصراعات والأحداث التي شكلها السياق التاريخي والدولي، في ظل خضوع مجتمعات الشرق الأوسط للغرب، وذلك ما يخلق تكتلاً وهمياً يقود الي الوعي الخاطئ لكن الصحيح كذلك أن الكاتب قد أورد وهماً مفاده أن سياسات دول الشرق الأوسط يجب فهمها علي أنها كانت - وربما ما زالت الي اليوم - ثمار مؤامرات، وأجندات سياسية غير منظورة، ومخططات، وأياد، وترتيبات، وتدليس بعيد النظر من قبل قوي دخيلة هي عادة القوي الغربية فهل يمكن ان يعد ذلك وهماً كما يعتقد الكاتب؟ يؤكد الكاتب في تحليله لهذا الوهم أن سياسات الشرق الأوسط عرفت مخططات ومؤامرات في القرنين الماضيين، كما يجزم بحدوث المزيد، لكنه يعود لينفي هذا الاعتراف باتخاذه موقفاً ينبذ الخضوع لوهم نظرية المؤامرة، حيث تشكل منحي من التفكير يراه فخاً يقود الي أمرين، أولهما: اللجوء الي التحليل الوهمي غير الواقعي الذي يجافي المحاجة القائمة علي البرهان والإثبات، وثانيهما: أنه يرفع المسئولية عن الممثلين السياسيين للأنظمة المحلية فيما يحدث من نتائج الأحداث. لكن لأن العلم يقهر الوهم الذي لا يفتأ الجهل أن ينتجه ويعيد إنتاجه، ولأن العلم أيضاً يحمي من التورط في تدابير متهورة لذا فإن أسباب تحفظات الكاتب لنبذ نظرية المؤامرة تتجلي حججاً فاسدة، خاصة في مواجهة حماية حق الوطن في أمنه، الذي يستوجب ان تحرسه رؤية سياسية لا تضعف مناعته، ولا تستخف بالتزاماتها، وتستند الي آليات استشارية مفتوحة علي الاستقصاء، والاستطلاع، وتستثمر طاقة اقتدارها المعرفي العلمي والعقلاني في تحديد ما يشكل أي عامل تهديد خارجي لأمن الوطن، فتلتقطه ولا تنتظر الإثبات حتي يصبح حقيقة واقعة يصعب استدراكها، إذ الأفكار لا تقرأ وحدها، بل في ضوء معطيات الحكمة المثيرة للأسئلة، المحصنة بالعلم الذي لا يهمل، أو يحذف أيه دلالات تطلب تفسيراً في عالم تتعدد ألاعيبه، وأيضاً جهات تصديرها، سواء أكانت دولاً أم نخبة عالمية مسيطرة، وذلك ما يفرض حالة الاستنفار الدائم لمواجهة تضليلاته واختراقاته، بأجنداته، ومخططاته غير المنظورة. إن مسيرة تقدم دول الشرق الأوسط، والعالم الثالث كانت تعترضها مسيرة موازية تشكلها الدول الاستعمارية المهيمنة، انتهاكاً لثرواته، لكن في عالمنا المعاصر ظهرت قوي جديدة متعددة الجنسيات لنخبة مسيطرة، تعمل داخل سياق شبكة عبر العالم، كشف عن وقائع مؤامراتها، الكاتب الأمريكي »دافيد روثكوبف« في كتابه »الطبقة الخارقة«، الصادر عام 8002، إذ وحدها تسيطر هذه النخبة المتسلطة بنفوذها علي مصير العالم السياسي والاقتصادي، تستوطن كامنة في الظل، وتنقض بانعطافاتها الحاسمة، فتقلب أوضاعاً، وتنتهك مقدرات شعوب بالقتل، والسطو، وإشعال الحروب، وتضم عدداً من رؤساء الدول، والمديرين التنفيذيين لأكبر شركات العالم، وأباطرة الإعلام، وأقطاب التكنولوجيا، وأصحاب المليارات في مجال الاستثمار، والمستثمرين في الأسهم الخاصة، وصفوة القادة العسكريين، والقادة الدينيين، والكتاب، والفنانين، بل وكبار المجرمين، ولم يخف المؤلف أسماء هذه النخب في مجالاتها المختلفة. لقد سقطت الأوهام القديمة في السيطرة علي العالم، وأصبحت في أيدي مجموعات غير رسمية من النخب، استحوذت علي النفوذ المالي، والسياسي، والفكري، والإعلامي، ونفوذ القوة، والتكنولوجيا، تري هل يمكن أن تستنفر الشعوب وعيها وإرادتها دفاعاً عن وجودها ضد مؤامرات هذه القوي الجديدة وتواطآتها، أم عليها ألا تخضع لنظرية المؤامرة، وتنتظر البرهان والإثبات؟