فكرة تواترت في الزمن الأخير فكرة الحوار بين الحضارات ، والغريب أن هذه الفكرة قد بدأت من الغرب الأوربي الذي سبقها في الجانب الآخر من المحيط الأطلسي بطرح آراء صراع الحضارات ، بلبلة بين الصراع والحوار تركت صداها في الشرق الإسلامي المقصود . وسارع الكثير من مفكري الشرق الإسلامي إلي تلقف فكرة الحوار مؤكدين ، إدراكا أو استسلاما ، أنهم لا يملكون غيرها ، وتباروا في تحديد الأبعاد والمفاهيم والقوالب والأطر وغيرها من المصطلحات التي يسوقونها لتسويق طريق الحوار ، واستنباط ما يؤكد احتواء المصادر الإسلامية علي فرضية هذا الحوار . وجاءت أحداث 11 سبتمبر لتضعف مسعاهم تجاه هذا الحوار الذي ظنوا زمنا في صدق طرحه من بعض المفكرين في الغرب ، وحدد الغرب حقيقة تفضيله للصراع الحضاري بعد هذه الأحداث وكأنه كان ينتظرها ليبدأ ما شرع في التخطيط له تجاه الشرق الإسلامي بالذات منذ زمن بعيد قبلها ، فاحتل أفغانستان بعد أن دمرها ، ثم استكمل مخططه بالعراق فاحتلها ليحقق منها جزءا هاما من هذا المخطط باقترابه من مصادر النفط ليتحكم في مسار الاقتصاد العالمي ، ويمزق باقي المسلمين حتى الأنظمة التي تستسلم لمشاريعه في الهيمنة ، والإعلان الصريح عن العداء لكل ما هو مسلم منهجا وشعوبا وتراثا وأرضا . ومع أن كل هذا أصبح واضحا لكل الشعوب والحكومات الإسلامية إلا أن الهلع والخوف من قبل الكثير من المفكرين المسلمين ما زال يثير تساؤلاتهم حول فكرة الحوار الحضاري الذي لم يعد لهم سواه ، وراحوا يستقطبون إليه من يعتبرونهم عقلاء من مفكري الغرب الذين ما يزالون يلعبون بهذه الورقة لأبعاد سياسية أو اقتصادية ليستكملوا بها أبعاد الاستغلال بعد الاستعباد الذي يفرضه الحصار والاحتلال . وشارك البعض من المفكرين المسلمين حول جدوى هذا الاتجاه فهل سيتحاورون مع الحضارة الإسلامية باعتبارها حضارة مساوية لحضارتهم وقدمت لهم الكثير في بنائهم الحضاري ؟ وهل سيشمل حوارهم الحضارات الأخرى كالحضارة الصينية والهندية أم أن المقصود هو المسلمين فقط ؟ وإذا سلمنا جدلا بذلك فهل يعتبر مفكروا الغرب أن حضارة المسلمين ما زالت قائمة وينبغي التحاور معها بشكل متكافئ أم هي الرغبة في صهر الضعيف في القوي أو القضاء علي ما تبقي من مقوماتها حتى تفسح الطريق لأحادية الحضارة أو سيادة العولمة ؟ إن الإحساس بالمؤامرة الذي أصبح من مكونات ثقافة أهل الشرق الإسلامي تجاه الغرب ، والذي يؤكده الواقع المعاصر ، يؤكد الفكرة القائلة برغبة الغرب ، من خلال الحوار كوسيلة إضافية ، القضاء علي بقية المقومات الذاتية لحضارة المسلمين لكونها ما زالت تتشبث بخصائص يصعب هضمها أو صهرها أو بلعها دعما لفكرة العولمة ببعدها الأمريكي . ولكي نستوضح جانبا من أبعاد الهدف من الحوار المعاصر وأدواته لابد من استرجاع البعد التاريخي للحوار بين الشرق والغرب ، فمنذ مساعي الاسكندر الأكبر لتحقيق السيادة العالمية والغرب هو صاحب الفكرة والتطبيق ، ومع ذلك لم يستطع تطبيق الفكرة أو صهر خصوصية حضارة الشرق بل صهرته هي وانضوي تحت لواء ثقافتها . وعاد الغرب ليحاول تطبيق الفكرة تحت لواء عقيدة شرقية هي المسيحية بعد أن حاول صبغها بجانب من طباعه في السطو والاستبداد وقهر الشعوب فقام بما يطلق عليه الحروب الصليبية ، لكنه أجبر علي التراجع بعد أن وجد الشرق أكثر خصوصية أخلاقية بالمسيحية ثم بالإسلام . ولم يفلح كذلك في القضاء علي الخصوصية الحضارية لأهل الشرق الإسلامي في الفترة الاستعمارية بل هي التي شكلت الدافع لخروجه من أراضيها . وعلي الرغم من امتلاك الأمريكيين لكل وسائل القهر والسيطرة إلا أن الخصوصية الحضارية للمسلمين ما زال لها دورها في مقاومة مخططاتهم سواء بشكل مقبول أو مكروه ، ولعلها تستطيع أن تجبره علي إعادة النظر في مخططاته أو في العودة إلي أسلوب الحوار بدلا من الصراع المكلف أو ربما الفاشل . وعلي المسلمين الذين ما زالوا يؤمنون بفكرة الحوار باعتبارها أحد مكونات عقيدتهم أن يتحاوروا أولا مع أنفسهم حتى يحددوا أسلوب الحوار مع صواريخ بوش التي قاربت علي حرق العالم الإسلامي بأكمله . فهل سيستطيعون الوصول إلي كلمة سواء بينهم ؟ وهل سيتغلبون علي خلافاتهم الحزبية والمذهبية والقبلية والعشائرية والقومية وهل وهل وهل ؟