»إذا ما فشل الانتقال الديمقراطي في مصر وانتهجت البلاد شكلا قمعيا، سلطويا، أو سيطرت عليها سلطة دينية، فإن المضاعفات ستكون عميقة جدا، وإذا ما حاز هذا البلد شكل حكومة ديمقراطية، قابلة للمساءلة، وفعالة، فمن المحتمل أن يصبح نموذجا قويا، ويكون في خاتمة المطاف قوة استقرار في منطقة مضطربة«. تلك بؤرة الرؤية التي يطرحها التقرير الأمريكي عن »المرحلة الديمقراطية الانتقالية في مصر: خمس خرافات مهمة حول الاقتصاد والمساعدات الدولية«، الذي أعده عام 1102 »مركز كارنيجي« للسلام بالولايات المتحدة، بالاشتراك مع معهد »ليجاتوم« البريطاني، و»المجلس الأطلنطي الأمريكي«. صحيح ان التقرير يري ان المظالم السياسية، التي لم تكف أو تنقطع عقودا عن تجريد المصريين من حس الكرامة، كانت السبب الذي قادهم إلي ثورتهم تحررا من السحق، والتشويه لحريتهم واستقلالهم، والصحيح أيضا ان التقرير يؤكد ان المصريين في الوقت نفسه، قد داهمتهم المظالم الاقتصادية باستطراداتها التي همشت فئات كبيرة، واستبعدت شرائح متعددة عن حياة يستحقونها، وورطتهم بأعباء معاناة تتراكب، وتقترن بعدم دعم من يقين للخلاص منها، وكأنها معاناة مطلقة، وصحيح أيضا ان التقرير يناقش علاقة السياسي بالاقتصادي في مصر، لكن الصحيح كذلك ان التقرير وإن كان يتناول بالأساس الحالة المصرية، فإنه لا يعزلها عن تأثيرها في البلدان من حولها، دون أن يعول علي تناظر التشابه بين مصر والبلدان المحيطة بها، ولا يتخطي أهمية الظروف المحلية لكل منها، التي يعتبرها العامل المؤثر في تقدم الديمقراطية أو تأخرها، بوصف الظروف المحلية هي مرجعية ذاتها، لكن التقرير يفترض أن الحالة المصرية تفيض خارج حدودها سلبا أو ايجابا علي المنطقة، لذا فإن أهم محصلة لنجاح التجربة المصرية، انها ستغدو بثقل قوتها، نموذجا للاستقرار في الشرق الأوسط المضطرب. ان التقرير يؤسس رهانه لنجاح مصر اقتصاديا في المرحلة الانتقالية، علي ضرورة تصحيح الخطاب المغلوط عن الأوضاع الاقتصادية المصرية، بوصفه خطابا ينسف كل فعالية ايجابية للنجاح، حيث يتبدي هذا الخطاب من خلال مستمسكات فكرية تتضمنها كما يسميها التقرير خرافات خمس مضللة، تستوجب مواجهتها، والتحرر من تأثير منطقها، اذ تروج إما لادعاءات، وإما لأطروحات تفتقد المهارات الاقتصادية أمام الفرص الممكنة، حيث يوضح التقرير ان الخرافة الأولي تدعي ان الاقتصاد المصري حالة ميئوس منها، والخرافة الثانية تؤكد حتمية تقدم الفعل السياسي، بديلا عن الفعل الاقتصادي وضرورة تأجيله، في مواقف يبطل فيها منطق البدائل، أما الخرافة الثالثة، فتجزم باستحالة المعالجة السريعة للمشكلات المالية، مثل قضية دعم السلع، والخرافة الرابعة تحسم أن الحكومة المصرية تحتاج إلي دعم عاجل للموازنة، والخرافة الخامسة تقيم حواجز المغالقة مع المجتمع الدولي، بادعاء انه قد فعل كل ما في وسعه لدعم المرحلة الانتقالية. راح التقرير يفند الخرافات الخمس، بتوظيف مهارات تقنيات التفكير الاقتصادي، طارحا التناقضات بين الخرافات الخمس ومعطيات مركب البنية الاقتصادية المصرية، من حيث فعاليتها وتنوع نشاطها، ومنتقدا موقف الغرب في ضوء حقائق عدم كفاية الدعم الدولي لحفز الاقتصاد المصري عموما، وتعزيز الاصلاحات، داعيا القوي الدولية إلي المبادرة بمساعدات اقتصادية، تسهل عملية الانتقال السياسي المصري إلي الديمقراطية. ان الرؤية التي يطرحها التقرير الأمريكي، الصادر عام 1102، تتفق وتصور الباحث الايراني المولد، الأمريكي الجنسية، »ولي نصر«، أستاذ العلاقات الخارجية، بجامعة تافتس الأمريكية، وعضو أول مجلس العلاقات الخارجية بالولايات المتحدة، اذ في كتابه الصادر عام 9002 بعنوان »صعود قوي الثروة نهضة الطبقة الوسطي الجديدة في العالم الإسلامي، وانعكاساتها علي عالمنا«، شرح تفصيلا المسكوت عنه، الذي لم يتناوله التقرير الأمريكي المعروض عن الحالة المصرية، وإن كان قد وضع خطة تنفيذ تلك الرؤية، التي تبدت في أطروحات التقرير عند تناوله تفنيد الخرافات الخمس، حيث تكشف عن علاقات دلالية، يعد أهم مفاتيحها الاستناد إلي سلطان الاقتصاد، الذي من خلاله يتحقق الاصلاح السياسي، اذ يؤكد المؤلف في كتابه »ان أهم مقومات الاقتصاد معرفة الوضع السائد في الشرق الأوسط، وليس فقط تحليل ما قد توحي به سلسلة العداوات والحروب والتهديدات، فالشرق الأوسط ليس مجرد منطقة أفكار متطرفة، متصارعة، وجيوش ثورية متحمسة، بل أيضا منطقة اقتصاديات متعددة، تحاول النهوض، واقتصادات تنعم بالازدهار، وقد ظهرت في كثير من البلدان طبقات جديدة من نخب رجال الأعمال، أخذت تشق طريقها نحو مراكز النفوذ، وتسهم في تغيير نمط الحياة الدينية والاجتماعية والسياسية«. يرسم المؤلف عبر كتابه، أفق منهج جديد، يراهن علي مبدأ الواقع الذي تبدو فيه طبيعة القوة الصاعدة للطبقة الوسطي الجديدة، في منطقة الشرق الأوسط، تختلف كثيرا عن طبيعة الطبقة الوسطي القديمة، وهو ما يعني تحديدا ان هذه الطبقة الوسطي الجديدة اقتصاديا، بوصفها غير تابعة للدولة، بل تابعة لاقتصاد الأسواق ولا تنعزل عنه، لذا فإن مصالحها تعتمد وترتبط بتطور الاقتصاد العالمي، وبإطلاق العنان لقوي السوق، وتحولها إلي ثروات، الأمر الذي يدفعها إلي رفض التوقف عند حدود المعطي الموروث، وانخراطها في استحداث ظروف أخري، مقصودة وواعية، دفاعا عن تصورات ثقافية وسياسية تسمح بالاندماج والتكامل مع العالم، وتنزع إلي التحرر الاجتماعي، والتصدي لقوي التطرف والعنف. صحيح ان البعض يري ان كتاب »ولي نصر«، قد لا يكون مجرد تعبير عن رأي مؤلفه، لكنه أيضا يعكس خطاب السياسة الأمريكية وتوجهاتها الجديدة تجاه الشرق الأوسط، وقد يكون ذلك صحيحا، لكنه محض تعديل تكتيكي، أما الاستراتيجية الأمريكية فمازالت تستهدف دفع الكل إلي الاحتراب ضد الكل، وعلينا أن ننتبه أن الكتاب والتقرير يحرضان علي ذلك بالمواربة، وأداتهما في هذه الجولة سلطان الاقتصاد.