كل الهيئات والمؤسسات والجمعيات والشخصيات التي لم تتوقف عن اصدار البيانات والتقارير التي ترسم صورة وردية عن الأحوال المصرية، الاقتصادية والاجتماعية، مطالبة باعادة النظر في أوراقها وأرقامها واستنتاجاتها. ولس السبب في ذلك فقط هو تضارب هذه الأرقام وتلك البيانات بما يسوغ الشك فيها جميعا وليس السبب كذلك وفقط هو التناقض الصارخ بين الصورة المتفائلة التي تنطق بها هذه التقارير لمؤشرات الاداء الاقتصادي وبين المعاناة المتزايدة التي تطحن الغالبية الساحقة من المواطنين فضلا عن الانهيار المروع للخدمات الاساسية والمرافق العمومية. السبب قبل ذلك وبعده هو هذا التردي غير المسبوق لأهم ملكة من ملكات الإنسان المصري، ألا وهي ملكة التفكير العقلاني، التي تراجعت إلي الوراء وحلت محلها صور شتي من التفكير الخرافي والخزعبلات والدجل والشعوذة. ومظاهر هذا التردي عديدة وأحدثها وبالتأكيد ليس آخرها حكاية شجرة الكافور إياها الموجودة علي طريق القاهرةالاسماعيلية الصحراوي والتي أصبحت "مزارا" يحج إليها مئات وآلاف المصريين ويتبركون بهذه الشجرة ويلتمسون فيها حل مشكلاتهم المزمنة، ابتداء من السيدة العاقر التي تسعي إلي الانجاب ومرورا بالمريض الذي يلتمس الشفاء والفقير الذي يعاني من "وقف الحال" وضيق ذات اليد. وبطبيعة الحال فإن هذه ليست المرة لأولي التي تحدث فيها مثل هذه الظاهرة العبثية المنافية للعقل والتفكير الرشيد، بل إن الخرافة لها تاريخ طويل ومتأصل ومتلازم مع عصور الانحطاط التي عاني منها المصريون في ظل تناوب أسوأ أنواع الغزاة والطغاة علي حكمهم وقهرهم واستعبادهم واستغلالهم. وحتي في العصر الحديث وبعد أن استعادت البلاد استقلالها وعاد المصريون ليمسكوا مقاليد أمورهم بأيديهم.. لم تختف الخرافة بل ظلت كامنة حتي لو كانت منزوية، لكنها سرعان ما كانت تطل برأسها من جديد في أوقات الكرب والغم والانكسار الوطني، مثلما حدث في أعقاب هزيمة 5 يونيه 1967 حيث لم يكن من باب الصدفة أن يتم الترويج لحكاية تجلي العذراء في احدي كنائس الزيتون بالقاهرة. وإذا كان هذا السجل "العريق" للخرافة في مصر يبرر قدرة التفكير غير العلمي وغير العقلاني علي الاستمرار في الوجود، فإنه لا يفسر "ازدهاره" وزيادة "الطلب" عليه الآن حيث دخلت البشرية الألفية الثالثة، وتشهد ثالث ثورة في تاريخها بعد الثورة الزراعية والثورة الصناعية هي ثورة المعلومات التي تمهد الطريق بقوة لقيام مجتمعات "المعرفة". وحتي علي الصعيد العربي والإسلامي وبصرف النظر عن استحقاقات ثورة المعلومات ومجتمع المعرفة فإنه مما يصعب تفسيرها أن يهرع مئات وآلاف المصريين للتبرك بشجرة كافور في وقت تتعرض فيه مقدساتهم لخطر داهم، مثلما هو حادث بالنسبة للمسجد الأقصي الذي تعيث إسرائيل حوله وتحته فسادا، وتهدده بالانهيار. وإذا كانت شجرة الكافور علي طريق القاهرةالاسماعيلية الصحراوي تمثل "معجزة" حقا، فلماذا تقتصر معجزاتهم علي ظهور بضع كلمات علي جذع شجرة، ولا نري معجزة تنقذنا من ذل الاحتلال الاسرائيلي لفلسطين، أو مهانة الاحتلال الأمريكي للعراق، أو مخاطر تمزيق النسيج الوطني في لبنان أو السودان، أو فاتورة الفقر والأمية والمرض والاستبداد والتخلف؟! الحس السليم مجرد الحس السليم كفيل بتسفيه وتبديد الأوهام المصاحبة لهذا النزوع إلي التفكير الخرافي الذي جعل مئات وآلاف المصريين يتضرعون إلي شجرة كافور ويتبركون بها في مطلع القرن الحادي والعشرين. وإذا كان الأمر كذلك.. فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو: لماذا إذن استهام مئات وآلاف من المصريين لتفكير سقيم يرفضه مجرد الحس السليم؟! ولماذا كان هذا التفكير الخرافي أقوي من النظام التعليمي وأقوي من جهود وزارة الثقافة وأقوي من الدور المستنير للمؤسسات الدينية، وأقوي من وسائل الاعلام الحديثة الفضائية والأرضية، وأقوي من صحف الحكومة والمعارضة وأقوي من الأحزاب وأقوي من العقل ذاته؟! لا توجد إجابة بسيطة علي هذه التساؤلات الحائرة لكن المؤكد أن جزءا من الإجابة هو أن "مؤسسة الخرافة" لم تتم محاربتها بصورة جذرية، بل إنها تمتعت في كثير من الأحيان بدعم مباشر أو غير مباشر من قوي يفترض فيها أنها تنتمي إلي معسكر الحداثة. ولحسابات انتهازية قصيرة النظر قامت بعض هذه القوي بمغازلة مؤسسة الخرافة ومهادنتها بل واستخدامها في موجهة مؤسسة العقلانية أخذاً في الاعتبار بالارتباط الشرطي بين الخرافة والاستبداد والقهر من جهة وكذا الارتباط الشرطي بين العقلانية والديموقراطية والتحرر من جهة ثانية. ولا يمكن اختزال الإجابة أو تبسيطها بتحمل مسئولية هذه الظاهرة للجهل والأمية صحيح أنهم يمثلان جذرا مهما لها ولكن ما القول في أن كثيرا من المتبركين بشجرة الكافور من "المتعلمين" والطبقة الوسطي. هذا معناه أن جذور الأزمة أعمق ويجب البحث عنها في مناهج التعليم المتخلفة والرسائل الضمنية والصريحة الصديقة للخرافة التي تبثها كثير من وسائل الاعلام المكتوبة والمرئية والمسموعة والطابور الطويل من "الدعاة" الاسلاميين الجدد الذين يشوهون الجوهر العقلاني للدين الاسلامي الحنيف ويروجون للخرافة ويسبغون عليها قداسة دينية والدين منها براء. وكل هذا ليس بعيدا عن الجدل الدائر هذه الأيام في مصر عن التعديلات الدستورية والاصلاح السياسي والاقتصادي والعقد الاجتماعي الجديد المطلوب التوافق عليه بين المصريين وفي القلب من هذا الجدل توجد القضية الاساسية أي دولة نريد: هل نريدها دولة مدنية حديثة أم دولة دينية تعيدنا إلي العصور الوسطي؟ والمسألة ليست مجرد "تسمية" للدولة بل هي استحقاقات هذا الاسم في السياسة والاقتصاد والتعليم والاعلام والثقافة. وقد ثبت أن مؤسسة الخرافة مازالت قوية في كل هذه المجالات.. ولابد من الاعتراف بذلك ونبذ سياسات التهاون مع هذه المؤسسة الاخطبوطية أو ابرام صفقات وحلول وسط معها فبدون إعادة الاعتبار إلي العقلانية بكل ما تعنيه سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا لا معني للحديث عن أي شيء جدي تحت ظلال شجرة الكافور أو تحت ظلال الزيزفون.. لا فرق. [email protected]