قبل بضعة أيام كتب مايكل هيرش مقالا فى مجلة السياسة الخارجية تحت عنوان المشكلة مع السياسة الأمريكية فى سوريا ليست ترامب، بل سوريا. وفى هذا المقال أراد أن يقول إن مايبدو من ارتباك فى سياسة ترامب تجاه سوريا مرده تعقيدات القضية وليس الرئيس نفسه، فَلَو أرادت الولاياتالمتحدة دعم من يسميهم بالمتمردين فسينتهى بها الحال لتقوية الراديكاليين الإسلاميين الذين سيستفيدون من ضعف الدولة السورية، وإن أرادت الولاياتالمتحدة تأييد القوى القادرة على هزيمة المتمردين فسوف تسهم فى تعزيز موقف بشار الأسد الذى يصفه بأنه مجرم حرب وحليف إيران. وفى التحليل الأخير فإن أعداء الولاياتالمتحدة يتصارعون مع بعضهم البعض، ويعنى بذلك جماعات السنة فى سوريا وأيضا العراق من جانب والجيش السورى والجماعات الشيعية المدعومة من إيران من جانب آخر. ويضيف أن سوريا لاتمثل أهمية كبيرة بالنسبة للولايات المتحدة بل هى كما قال دونالد ترامب تماما ليس فيها سوى رمل وموت. كما أن ألفى جندى أمريكى فى سوريا ليسوا بقادرين على تغيير الوضع القائم على الأرض. ولقد سبق أن مثلت سوريا معضلة للرئيس أوباما مع فارق بسيط أن أوباما حسم أمره بعدم التدخل العسكرى فى سوريا بشكل أسرع لأنه لم يرد تكرار فظائع العراق ولا إعادة تجربة سقوط ليبيا بيد الإسلاميين، واقتنع بأن العالم العربى مازال يحتاج إلى رجاله الأقوياء. مفتاح المقال إذن هو محاولة تبرير التخبط فى سياسة ترامب تجاه سوريا بالقول إن الوضع فى سوريا شديد التعقيد وسريع التغير بما يؤدى إلى ضبابية الرؤية وبالتالى صعوبة عملية صنع القرار. وبطبيعة الحال فإن أحدا لا يستطيع أن يجادل فى شدة تعقيد الصراع السورى وتلاحُق تطوراته، لكن يلفت النظر أن حجم التغير فى المشهد السورى فى فترة حكم أوباما كان أكبر بكثير منه فى عهد ترامب، فلقد بدأ بشار الأسد قابضا على زمام السلطة فى عام 2011 ثم توالت الانشقاقات فى النخبتين العسكرية والسياسية المحيطتين به، وبدأ الصراع سلميا وتحول إلى صراع شديد العنف كما تحول من كونه صراعا داخليا إلى أقرب ما يكون للحرب الكونية على أرض سوريا، ومع ظهور «داعش» وتوسعه بدأ فصل جديد تماما فى الصراع إلى أن انتهى بالتدخل العسكرى الروسى فى سبتمبر عام 2015. لكن أوباما فى ظل هذه الغابة من الأحداث والتطورات استطاع أن يتخذ موقفا حاسما بعدم التورط فى سوريا وتراجع عن قراره بالتدخل فى حالة استخدام الأسلحة الكيماوية، وهذا يعود لعمله بشكل مؤسسى، أما مسألة خشيته من تكرار فظائع العراق فليس أكثر من الفظائع التى ارتكبتها القوات الأمريكية نفسها فى العراق. عندما ننتقل لترامب نجده تسلم السلطة فى مطلع عام 2017 ووقتها كانت معالم الصورة فى سوريا قد اتضحت لحد بعيد وتوالت خسائر «داعش» وتحددت ملامح أدوار القوى الفاعلة على الأرض، ومع ذلك فإنه نقض وعده الانتخابى باعتزال الشأن السورى وأرسل ألفين من قواته إلى سوريا ثم توالت تصريحات الانسحاب وعدم الانسحاب وانفتح مزاد المُدَد والتوقيتات وصولا للحديث عن الانسحاب الحذر. وبالتالى فإذا كان السؤال هو: أين تكمن المشكلة: فى ترامب أم فى سوريا؟ فإن الإجابة هى نعم هناك مشكلة فى سوريا، لكن المشكلة الأكبر تكمن فى ترامب سواء داخل سوريا أوخارجها. ومن يرد تقييما شاملا لعامين من حكم ترامب فإن عليه الرجوع لمقال توماس فريدمان فى جريدة نيويورك تايمز يوم 24 ديسمبر الماضى تحت عنوان حان الوقت ليهدد الجمهوريون بإطاحة ترامب، ففى هذا المقال تحليل موجز ودقيق لسياسات ترامب تجاه المؤسسات الدولية وحلفاء الولاياتالمتحدة وخصومها فضلا عن أسلوبه فى صنع القرار، وبعد أن يفرغ من هذا التحليل يخلص إلى أنه لم يكن يؤيد إزاحة ترامب من منصبه ويفضل أن يرحل عبر صندوق الانتخاب، لكن جاء قرار الانسحاب من سوريا ليُغيّر موقف فريدمان فإذا به يدعو الجمهوريين للضغط على الرئيس الأمريكى إما لتعديل سلوكه وإما إلى الاستقالة. آتى لنقطة أخيرة تتصل بوصف ترامب سوريا بأنها أرض رمل وموت وهو الوصف نفسه الذى تبناه مايكل هيرش وكرره فى مقاله، والحقيقة أن هذا التقييم لا يصدر إلا ممن لا يدرك مركزية وضع سوريا فى استراتيچيات القوى الكبرى تجاه الشرق الأوسط، وقد كان باتريك سيل الصحفى البريطانى الشهير واحدا ممن سلطوا الضوء على هذه المركزية فى كتابه الصراع على سوريا حين تناول التجاذبات الدولية التى تعرضت لها سوريا خلال الفترة من عام 1945 حتى عام 1958، أى فى خضم معركة الأحلاف العسكرية والحرب الباردة. كان هذا فى خمسينيات القرن الماضى، أما الآن فمازالت لسوريا أهميتها بل إنها زادت، فهناك التمدد الروسى فى الشرق الأوسط، وبروز الخطر الإيرانى ووصول صواريخ حزب الله إلى الداخل الإسرائيلى، هذا فضلا عن ثروات شرق البحر المتوسط الموعودة من نفط وغاز، هذه الثروات التى تخاض من أجلها الحروب وتستعر الصراعات، وليس مصادفة أن تتموضع القوات الأمريكية فى سوريا على مقربة من أهم حقول النفط والغاز السورية تحت ذريعة حماية الأكراد. أما كون هذه القوات لا تتألف إلا من ألفى جندى فقط فكلنا يعلم أن للوجود العسكرى الأمريكى رمزيته المهمة وهيبته أيضا. صفوة القول إنه كما أن المشكلة فى سوريا ليست سورية فقط بل ترامبية أيضا بامتياز، فإن الأرض السورية ليست مجرد رمل وموت فالقوى الكبرى لا تغوص أقدامها إلا حيثما توجد الثروات فى باطن الأرض وحيثما تكون هذه الثروات جديرة بالمغامرة. لمزيد من مقالات د. نيفين مسعد