لا شك أن لدى الدولة الإيرانية مشروعاً سياسياً للهيمنة يستهدف الخليج أولاً والوطن العربى من بعده، ومصدر الخطر فى هذا المشروع لا يكمن أساساً فى موازين القوى بين إيران والدول العربية فلديها من القوة ما يمكنها من التصدى للخطر إن أُحسن توظيفها، وقد أمكن لعاصفة الحزم أن توقف امتداد السيطرة الحوثية التابعة لإيران فى اليمن على أى حال وإنما يتمثل أصلاً فى المكون الأيديولوجى للمشروع الذى يستند إلى الطائفية التى من شأنها إن استشرت فى الجسد العربى أن تفقده مناعته بالكامل، ومع ذلك فلا شك أنه من الأمور الأساسية فى مواجهة خطر المشروع الإيرانى أن نفرق بين جوهر الخطر الذى لا خلاف عليه وبين أسلوب مواجهته الذى يشهد اختلافاً بيناً، وقد فتحت التصرفات الأخيرة للرئيس ترامب وانسحابه من الاتفاق النووى الباب للتصعيد لأن إيران ما لم تطمئن إلى أن هذا الانسحاب لن يصيبها بأضرار جسيمة قد لا تجد مفراً من الانسحاب بدورها منه واستئناف برنامجها النووى وهذا يفضى فى حد ذاته إلى مزيد من التصعيد، وتزداد خطورة سيناريو التصعيد بتعقيدات الصراع السورى التى أدت إلى طلب النظام السورى المساعدة من حلفائه وعلى رأسهم روسياوإيران، ومعروفة حساسية إسرائيل تجاه أى وجود عسكرى لإيران وحلفائها إلى جوارها ومن هنا العمليات العسكرية الإسرائيلية المتكررة على الأرض السورية والتى وصلت بالتزامن مع الانسحاب الأمريكى من الاتفاق النووى إلى مرحلة جديدة بالرد الإيرانى على الضربات العسكرية الإسرائيلية بضرب مواقع فى الجولان المحتل وما تلا ذلك من رد إسرائيلي، وعلى الرغم مما يبدو من أن كلا الطرفين أى إيران وإسرائيل يدركان مخاطر المواجهة المفتوحة ولذلك وجدنا أن الضربات كانت محكومة ومحسوبة بعيداً عن التصعيد العشوائى فإن هذه التطورات الخطيرة يجب أن تأخذ نصيبها الواجب من اهتمام المعنيين بالسلم والأمن فى هذه المنطقة الزاخرة بالصراعات شديدة الحساسية حيث إن أى خطأ فى الحسابات يمكن أن يؤدى إلى كارثة من المؤكد أننا فى غنى عنها. لذلك فإنه من غير المفهوم أن يهلل البعض للانسحاب الأمريكى من الاتفاق النووى وأن يصل الأمر إلى حد التماس الأعذار لإسرائيل فى ضرب سوريا مع أن إفلات الزمام والدخول فى الحلقة المفرغة للتصعيد سوف تكون تداعياته بالغة الخطورة على الجميع والمهللين أولهم، ومما يصيب المرء بالذعر الخفة التى يتحدث بها البعض فى هذا الصدد، وقد كنت أتابع أحد البرامج الحوارية فى إحدى الفضائيات الدولية ولم أصدق نفسى وأنا أرى صحفياً عربياً يتحدث عن قوة إيران العسكرية وكأنها دولة من الدرجة الرابعة، والمشكلة أن يكون هذا النوع من الإدراك للموقف موجوداً فى دوائر صنع القرار لأنه يمثل أقصر الطرق لكارثة، ولقد أشرت فى بداية المقالة إلى قوة الدول العربية فى مواجهة إيران لكن هذا شيء والاستخفاف بالخصم شيء آخر، وإذا كانت التصرفات غير المحسوبة لترامب تستند إلى أنه يحكم القوة الأولى فى العالم فإن تصرفات دول المنطقة يجب أن تتحلى بأعلى درجات الرشادة، وثمة بعد آخر يجب ألا يغيب عن أذهاننا وهو أن التصعيد الراهن الذى أفضى إليه الانسحاب الأمريكى من الاتفاق النووى يخدم هدفاً أمريكياً أصيلاً لم يخفِه ترامب فى أى وقت ينبع من أنه يستكثر على بعض الدول العربية ثروتها ويعتبر أن للولايات المتحدة حقاً أصيلاً فيها فى مقابل الحماية التى يتصور أنه يوفرها لهذه الدول، وليست هناك آلية لاستنزاف هذه الثروات أسهل من زيادة حادة فى التوتر تقنع هذه الدول أو تجبرها على شراء أسلحة أمريكية بمئات المليارات من الدولارات وهو ما يبدو للأسف أن ترامب قد نجح فيه حتى الآن. ويعنى ما سبق أننا بحاجة ماسة لنهج عربى فى مواجهة التصعيد الراهن يُبنى على الإدراك السليم لخطر المشروع الإيرانى والسبل المثلى لمواجهته معاً، وليس ثمة شك كما سبقت الإشارة فى الخطر الذى يمثله مشروع الهيمنة الإيرانى لكن الخلاف واضح مع من يتوهمون أن مواجهة هذا الخطر وتصفيته تتم بالوسائل العسكرية وحدها. صحيح أن اللجوء لهذه الوسائل يصبح حتمياً عندما يتغول هذا الخطر كما حدث فى تحريض فئة يمنية محدودة على الانقلاب على قوى الشرعية، وقد كان ونجحت عاصفة الحزم فى وقف تمدد السيطرة الحوثية على الأرض اليمنية وإن لم تقض عليها بعد، كما أنه من الضرورى بمكان أن تحافظ الدول العربية وبالذات المتاخمة لإيران على ميزان للقوى العسكرية معها لا يسمح لها بابتزاز هذه الدول عسكرياً للحصول منها على تنازلات سياسية، كذلك لابد من مطاردة النفوذ الإيرانى فى البلدان العربية التى وصل إليها هذا النفوذ واستشري. وقد كان لعدد من الدول العربية كمصر والسعودية محاولات فى هذا الاتجاه حققت بعض النجاح لكن تحقيق مزيد منه يتطلب جهوداً أكبر، وثمة جهد مطلوب كذلك باتجاه تحصين المجتمعات العربية ضد التغلغل الإيرانى تحت أى شعارات، وأخيراً وليس آخراً فإن أفكار إجراء حوار عربى - إيرانى يجب أن تؤخذ على محمل الجد ليس من باب حسن النية تجاه من يطلقونها من الجانب الإيرانى ولكن لأن الأطراف العربية أثبتت غير مرة وآخرها فى الصراع اليمنى أنها ليست لقمة سائغة فى الفم الإيرانى وهى بالتأكيد أكثر من ند بشرط توحدها للدخول فى حوار مع إيران يحفظ لطرفيه مصالحهما بل ويبنى منظومة للمصالح المتبادلة تكون خير بديل عن نوازع الهيمنة والتسلط أما الانسياق وراء استراتيجيات دولية تسعى لتحقيق مصالحها بزيادة التوترات وإشعال الصراعات فى المنطقة فهو نوع من الانتحار من المؤكد أننا لسنا بحاجة إليه. لمزيد من مقالات ◀ د. أحمد يوسف أحمد