يكشف حصاد قرابة سبعين يوما من حكم دونالد تترامب عن اتجاه السياسة الأمريكية فى الشرق الأوسط نحو مزيد من العسكرة. ولقد جاء أحدث نماذج هذه العسكرة من اليمن عندما نشرت صحيفة ال«واشنطن بوست» مذكرة قدمها چيمس ماتيس وزير الدفاع للرئيس ترامب عن أهمية رفع القيود التى وضعها أوباما على الدعم الأمريكى لدول الخليج. وكان ماتيس يقصد بذلك دعم العمليات العسكرية الإماراتية بالتحديد من أجل استعادة ميناء الحديدة ومنع تهريب الأسلحة الإيرانية للحوثيين من خلاله. ويلفت النظر فى هذا الطلب أمران أساسيان، الأول أن السياسة الأمريكية فى اليمن كانت تركز على محاربة الإرهاب، وبالتالى فإن التحول إلى رفد جهود تحالف دعم الشرعية فى اليمن إنما يعنى توسيعا لنطاق النشاط العسكرى الأمريكى باستهداف النفوذ الإيراني. أما الأمر الثانى فهو أن طلب الدعم - سواء اقتصر على تقديم المعلومات الاستخباراتية والاستشارة العملياتية والتدريب الميدانى للقوات الإماراتية أو تجاوز ذلك للانخراط العسكرى المباشر- فإنه اقترن بطلب عدم الحصول على موافقة البيت الأبيض على كل صورة من صور هذا الدعم على حدة. وتتسق هذه النقطة الأخيرة مع ما وصفه أحد المحللين السياسيين بتغير قواعد الاشتباك فى ظل ترامب، وهو مصطلح نفهم منه زيادة استقلالية القرار العسكرى الميدانى الأمريكى وعدم حاجة القيادة العسكرية للرجوع إلى القيادة السياسية فى تفاصيل العمليات . المثال الثانى يأتى من ليبيا مع تزايد احتمالات التدخل العسكرى الأمريكى فيها. ويعزز تلك الاحتمالات أن ترامب كان دائم الانتقاد لسياسة الإدارة السابقة على تهاونها فى الدفاع عن المصالح الأمريكية فى ليبيا وصولا إلى اغتيال السفير الأمريكى نفسه. ومن هنا فإنه تعهد أثناء حملته الانتخابية بالعمل على التدخل العسكرى فى ليبيا التى أغرقتها هيلارى كلينتون فى المشاكل. ومن المعلوم أن الولاياتالمتحدة كانت قد ابتعدت عن الساحة الليبية على أثر الهجوم الإرهابى على قنصليتها فى بنغازى فى سبتمبر 2012 ولم تفلح الثورة الليبية بكل تطوراتها فى تغيير هذا الموقف الأمريكي. الآن هناك ما يشير إلى تفاهم أمريكى - إيطالى بخصوص الشأن الليبي، وإيطاليا لها وجود عسكرى على الأرض الليبية، كما أن احتمال التنسيق الأمريكى - الروسى قائم فى الشأن نفسه مع تنامى النفوذ العسكرى الروسى فى ليبيا، فعلى الرغم من أن التمدد الروسى فى الشرق الأوسط يولد مجالات للتنافس مع الولاياتالمتحدة، إلا أنه يفتح فى الوقت نفسه آفاقا للتنسيق معها. حدث هذا فى سوريا وليس هناك ما يمنع من تكراره فى ليبيا. أما فى سورياوالعراق فإننا نتحول من الحديث عن التدخل العسكرى الأمريكى المحتمل إلى الحديث عن تزايد الانغماس العسكرى الأمريكى فى ديناميات الصراع المسلح. وفى هذا الإطار أرسلت الولاياتالمتحدة الشهر الماضى قرابة ألف من قواتها إلى شمال سوريا لتفصل بين قوات سوريا الديمقراطية المدعومة أمريكيا وبين القوات التى تساندها تركيا وعلى رأسها الجيش السورى الحر. مثل هذا التدخل العسكرى الأمريكى يختلف نوعيا عن عمليات الإنزال الجوى التى نفذتها الولاياتالمتحدة أكثر من مرة وكانت بمثابة العمليات الجراحية التى استهدفت رءوسا كبرى لقادة التنظيمات الإرهابية على نحو ما حدث بقتل أبى سياف أحد زعماء القاعدة فى مايو 2015، فالتدخل العسكرى الجديد يغير من توازنات القوة بين الأطراف المختلفة على الأرض ويجهز لمعركة الرقة المنتظرة ، وهى معركة لن تكون سهلة. ولعل من أفضل التحليلات التى قرأتها فى تفسير هذا التطور فى الاستراتيچية الأمريكية حيال سوريا ذلك المقال الذى كتبه أشرف الصّباغ بعنوان الصراع الرباعى فى سوريا وبداية مرحلة التقسيم وتحدث فيه عن الانتقال من مرحلة التحديد النظرى للنفوذ بالاعتماد على الوكلاء إلى مرحلة ترسيم الحدود. فمع أن دور الوكلاء لا يختفى فى هذه المرحلة الجديدة إلا أن الانغماس المباشر من الأطراف الرئيسيّة أمر مطلوب. وهكذا ترفرف الرايات الأمريكية التى ترفعها آليات وحدات حماية الشعب الكردى جنبا إلى جنب مع الرايات التى ترفعها المدرعات الأمريكية غربى منبچ. أما فى العراق فثمة تكثيف ملحوظ للغارات الأمريكية على مواقع داعش فى الموصل، وكانت إحدى أكثر هذه الغارات عنفا تلك التى وقعت يوم 17 مارس الماضى وخلفت من ورائها عشرات القتلى من المدنيين. نحن مقبلون إذن على مزيد من التورط العسكرى الأمريكى فى صراعات المنطقة مما يضيف لهذه الصراعات أبعادا جديدة تزيد فى تعقيدها سياسيا وليس فقط عسكريا. وذلك أن كل تدخل عسكرى فى إحدى الساحات العربية تترتب عليه نتائج سياسية، فالتدخل فى ليبيا والتنسيق العسكرى مع روسيا يَصْب فى مصلحة المشير خليفة حفتر ويطرح تساؤلات حول مستقبل اتفاق الصخيرات، وإلقاء الولاياتالمتحدة بثقلها خلف أكراد سوريا بعد أن كانت هى الداعم الأكبر للجيش السورى الحر يعيد تشكيل الخريطة السياسية وأيضا الجغرافية وضمنها فكرة المناطق الآمنة التى تحتاج مقالا خاصا بها، ورفد العمليات العسكرية الإماراتية فى اليمن يؤثر فى الميزان العسكرى ومن ثم فى فرص الحوار السياسى بين الفرقاء. بالطبع لا يحظى مثل هذا التورط المتزايد بموافقة كل أركان الإدارة الأمريكية ، سواء لعدم الثقة فى نجاحه، أو لمفاقمته قضية اللاجئين بدلا من تقليصها، أو حتى لانعكاساته السلبية على العلاقة الأمريكية مع بعض حلفائها كتركيا مثلا، لكن يبقى أن الملمح العسكرى فى السلوك الأمريكى يتبلور بوضوح ويبدو معه كما لو أن تفعيل مبدأ أمريكا أولا يرتبط بحسم صراعات الشرق الأوسط أولا، لكن المشكلة هى أن مثل هذا الحسم لا يبدو واردا فى حدود الأمد المنظور. لمزيد من مقالات د.نيفين مسعد;