منذ أيام قليلة مرت فى صمت يشبه صمت القبور، الذكرى الثالثة لرحيل النجم ممدوح عبدالعليم «10 نوفمبر 1956 / 5 يناير 2016» الذى نزل خبر رحيله منذ ثلاث سنوات على الوسط الفنى والجمهور كالصاعقة، حيث غادرنا دون أن نتوقع. ................................................................. فلم يكن أحد يتخيل هذا الرحيل المفاجئ، خاصة أن الراحل كان يتمتع بصحة جيدة، ولم يكن مريضا، لكن مشيئة الله شاءت أن يرحل وهو فى أوج نضجه الفنى، حيث كان يستعد لتصوير الجزء السادس من مسلسله الشهير «ليالى الحلمية»، الذى ارتبط به من الجزء الثانى، وقدم لنا فيه احلى وأعذب وأمر قصة حب عرفها جيل تسعينيات القرن الماضى، فكان حب «على البدرى» ل «زهرة سليمان غانم» هو صوت القلب فى أروع دقاته، صوت الحب الذى ترتعش فيه القلوب، وتتنهد فيه العذارى، ويذوب الشباب وجدا وحبا، كانت مشاهد اللقاء بين «على وزهرة» دستور عشق للعاشقين، كان الحب الذى تعلمنا منه كيف نحب، ونسامح، ونغضب، ونثور، كان حب العمر لجيلنا. منذ بدأ الراحل مشواره الفنى الطويل وهو فى الطفولة من خلال مسلسل «الجنة العذراء» بطولة كريمة مختار وأنور إسماعيل، إخراج نور الدمرداش، كان الفن بالنسبة له رسالة، وكانت أعماله تملك الرغبة الجادة فى تقديم فن يريده، وقضية تشغل باله وتجعله يعيش فى قلق وتوتر، كان ممدوح يعشق الاختلاف ويؤكد فى كل عمل يقدمه أنه متمرد من طراز خاص، وتشهد على ذلك أعماله السينمائية، فلم يقدم فيلما يشبه الآخر، من حيث الموضوع وطريقة التمثيل والأداء، فدوره فى «الخادمة»، يختلف عن «العذراء والشعر الأبيض»، ودوره فى «البرىء» بعيد تماما عن «سمع هس» أو «بطل من ورق»، ودوره فى «سوبر ماركت» سكة أخرى عن «كتيبة الإعدام» أو «رومانتيكا». الحب وأشياء أخرى فهو كان قادرا على انتزاع الإعجاب وإثارة الدهشة فى كل عمل فنى يقدمه، ونفس الأمر حدث فى الدراما فأدواره متنوعة ومختلفة، حيث قرر ان يصوغ من مشاعره لغة ينفرد بها، وإحساسا يتميز به، وطريقة تحدد اتجاهه، وأن يضع احساسه فى خدمة موهبته ليقدم لنا فنا مميزا بخصوصيته، العلامات الدرامية المضيئة فى حياة ممدوح كثيرة وأكثر من السينما فهو نما وكبر أمام أعين المشاهدين، من الشاب المليء بالأحلام فى «صيام.. صيام»، مرورا بشقيق البطلة الحائر بينها وبين حبيبته فى «دعوة للحب» مع ميرفت أمين، إلى «سامح» الشاب الفقير خريج معهد الموسيقى، فى رائعة أسامة أنور عكاشه «الحب وأشياء أخرى» الذى يعمل فى مدرسة حكومية، وهو نموذج للإنسان المهذب الذى يحس بالجمال وينفعل به، ويرتبط بالطبيبة الغنية «هند» بعد قصة حب جميلة، وبعد الزواج يكتشف الحبيبان أن الحب غير كاف للصمود أمام الفرق الطبقى بينهما، ويدهشنا فى مسلسل «جمهورية زفتى» بتجسيده شخصية الفلاح «إبراهيم» الذى يدفعه ظلم الإستعمار الإنجليزى لأهل بلدته للتمرد ومقاومته حتى يصبح بطلا شعبيا وخارجا عن القانون ويقوم بحملة لاسترداد حقوقهم المنهوبة. ولكن خيانة أحد رجاله تتسبب فى مقتله مما يولد لديهم مشاعر الحزن والغضب لدى سكان المدينة. خالتى صفية والدير فى رائعة بهاء طاهر «خالتى صفية والدير» هو «حربى» الرجل الشهم، طيب القلب، المحبوب من الجميع الذى لم يرتكب أى خطأ سوى أنه أحب امرأة وأحبته، لكنه يضحى بحبه هذا لأجل سعادة خاله «القنصل» الذى يتزوج من حبيبته، فتقرر هذه الحبيبة الانتقام من «حربى»، فتدعى عليه كذبا أشياء لم يفعلها، فيربطه الخال فى شجره ويجلده حتى ذاب جلده، وحربى يتوسل إليه «أنا حربى يا خال، متعملش فيا كده يا خال»، فلم يستمع الخال الذى أعماه الحب والكبرياء، لذا لم يجد «حربى» مفرا من الجلد سوى قتل الخال برصاصة وانتهى به الأمر فى السجن. أبيض فى أبيض ورفيع بك ويمتعنا بشخصية جديدة على الدراما المصرية فى «أبيض فى أبيض» حيث يقدم شخصية «منذر العجرودى» الذى لا يحب إلا اللون الأبيض، يعيش مقهوراً بسبب سيطرة والدته عليه فى كل شيء مما يجعله عاجزاً عن اختيار أى شيء فى حياته سوى «اللون الأبيض» الذى يرتديه ولذلك فهو يحارب كل الناس لكى يتمسك بالشيء الوحيد الذى اختاره.. وفى مسلسل «شط إسكندرية» وهو الدكتور «عاصم الشربينى» رجل الأعمال الذى قضى حياته بحثا عن السعادة ولم يجدها بالرغم من ثرائه وتعدد علاقاته، وفى نهاية التسعينيات يقدم لنا إحدى أيقوناته الفنية الجميلة من خلال شخصية «رفيع بك» فى رائعة محمد صفاء عامر وإسماعيل عبدالحافظ «الضوء الشارد». فالراحل لم يكن يعتبر الفن تسلية، ولا مجرد أعمال فنية تمر مرور الكرام، ولكن كان يهمه تقديم أعمال من الناس وإلى الناس، فتجده يلمع ويتألق فى شخصية المحاسب «مرزوق أبو الحسن» فى مسلسل «سامحونى مكنش قصدى» مع المدهشة إلهام شاهين، وكذلك أدواره فى» الفريسة والصياد»، والمسلسل التاريخى «طارق بن زياد»، وغيرها من الأدوار التى مست شغاف قلوبنا. أنقذ شريف عرفه من الإحباط ورغم رحيله منذ ثلاث سنوات لكن سوف تصاحبنا دائما موهبته السخية، وعطاؤه الجزيل من خلال أعماله التى أسعدت الملايين من المصريين والعرب. وبحزن الفراق ولوعته نقلب صفحات من مسيرة هذا الفنان لنتلمس العزاء، فنجد أنه مثلا كان سببا فى انتشال الكاتب المبدع ماهر عواد، والمخرج المتجدد شريف عرفه من الإحباط، وهذه قصة رواها بنفسه فى أحد حوارته الفنية التى أجراها فى إحدى المجلات الفنية العربية منذ حوالى 20 عاما، حيث قال: «كانت تربطنى علاقة صداقة وطيدة بالكاتب ماهر عواد، والمخرج شريف عرفه، وبعد فشل فيلمهما «الدرجة الثالثة» فى دور العرض، التقينا كأصدقاء قبل أن نكون مبدعين، وقد جاء اللقاء فى لحظة صعبة بالنسبة لشريف وماهر حيث كانا فى حالة نفسية سيئة وغاية فى الإحباط نتيجة تعثر فيلمهما «الدرجة الثالثة»، فرحت أرفع من روحهما المعنوية، وأشد من أزرهما، فحدثتهما كثيرا عن السينما التى نتمناها، وانتهيت إلى طرح مشروع إنتاج سيناريو «سمع.. هس»، الذى كتبه ماهر، بحيث لا نعطيه للمنتجين المعروفين، أى اننى كنت صاحب المبادرة التى أردت من خلالها أن نكرر تجربة «صوت الفن» التى قامت على أكتاف فنانين ومبدعين مثل محمد عبدالوهاب، عبدالحليم حافظ، ووحيد فريد، وكان لها فضل تقديم أفلام غنائية، مختلفة عن السائد، كان طموحى أن نفعل هذا فى السينما، وبالفعل صنعنا فيلما مختلفا عن كل السائد وقت عرضه، بدليل ظهور العديد من التجارب المماثلة التى اعتمدت الشكل واللون الغنائى الاستعراضى، مثل «يا مهلبية يا»، و«كريستال» و«كابوريا»، وغيرها من الأفلام التى استعارت تجربتنا فى «سمع... هس». رحم الله ممدوح عبدالعليم على قدر ما أمتعنا بفنه الراقى المتسرسب للوجدان.