فى مشهد العشق الوطني، تَحمِلُنا أعْيُن الرؤية على أجنحةِ المِدَادِ إلى مساحات من تأمُل فى مشهد وداعٍ لشهيد غرام، يَسوقه الواجب إلى ساح التضحية، يجود بالروح وفى غمضة عين يحمل صفة (شهيد) قبل اسمه ودعوة بعده (الله يرحمُهْ)، وتَزُفهُ إلى مثواه الأخير (جنازة) هادرة الحضور وساخنة الدموع وواسعة التغطية الإعلامية، فيما يَلُف الحزن أوشحته طبقات على قلوب كل ذوى الشهيد وصحبِّه بحسب درجة قربه منهم، غير أن ريح الوقت سرعان ما تطوى طبقات الحزن وأوشحته لتحيل (الشهيد) إلى سكنٍ فى عمق الذاكرة رُبَّما يتجسد تخليداً فى صورة أو سبيل أو حتى إطلاق اسمه على شارع أو مدرسة، وهكذا تقف قراءة مشهد العاشق الشهيد بين تأكيد على مُؤَكَّدٍ أصلا هو (عِظَم التضحية)، وتوثيق لأوجاع الفراق والرحيل. فى ترجمة العشق الوطني، تُمَثِّل (الشهادة) البيان الصريح لحجم المَحَبَّة، والتجسيد الكامل لعِظَم استيعاب رسالة المحبة، حين يسير إنسانٌ نحو الموتْ قانِعاً أن مواجهته هو أقصر السبل نحو الحياة، هكذا يرسم المِدادُ حالة إنسان مثل الشهيد (مصطفى عبيد) الذى ارتقى أثناء تفكيكه عبوةٍ من أصل ثلاث عبوات ناسفة كانت تستهدف محيط كنيسة (السيدة العذراء وأبو سيفين) الواقعة فى عزبة الهجانة بحى مدينة نصر يوم الخامس من يناير 2019، وبغير انفصال عن حالة الحزن التى يفرضها الخطب، إلا أن تأملًا لازمًا فى خصوصية حالة الشهيد (مصطفى عبيد) ومثله كل العاملين فى ذات مجاله (المفرقعات)، وكل ساهرٍ على ثغرٍ أمنى فى هذا الوطن، يقودنا التأمل فى حالة الشهيد (عبيد) إلى شابٍ يخرجُ من داره كلَ صباحٍ مودِعاً أهله فيما تختلط فى وعيه مشاعر الوداع التى تفرضها المهام اليومية مع مشاعر الأمل النابع من العشم فى وجه الستار أنْ يًسدِّلَ عليه أستار ستره فلا تقف دون أدواته دائرة تفجير مهما يبلغ تعقيدها، إن معايشة هذه المشاعر المختلطة بصفة مُستمرة كفيلة بأن تُحيل صاحبها إلى توتر نفسى يستحيل مرضيًا، أو تُحَوِّلُه إلى عاشقٍ قادر على أن يُترجمَ عشقَهُ أملًا فى غدِ، يكون فيه ساهرا على ثغر الوطن ليأمن الخلق، أو يغدو فيه فداءً ليحيا إنسان وطنه آمِنًا مطمئنًا، ومما لا شك فيه أن أداء نموذج مثل الشهيد (عبيد) يؤكد أن لهوى هذا الوطن فعل السحر فى النفوس، إنه الهوى القادر على استدعاء جيناتٍ قديمة قِدَم الوطن وناسه لتُقَدِم لكل مصرى النموذج لمن قرر أن يُحيل مِهنتَهُ رسالة حياة لوطنة ممهورة بعشق حقيقى لا يشوبه ادعاء. إن قراءة نموذج العشق الوطنى المتجسد فى الشهيد (عبيد)، لا يمكن فصله عن سياق مسلسل استهداف عام للإنسان وخاص لوطننا باعِثُهُ التطرف وأدواته الإرهاب والإرعاب، وجُنْدُهْ ينتشرون فى بدن الوطن وبين صفوف الناس، وبالتالى إن كانت مصر ترفع شعار الحرب على الإرهاب، فإن الشهيد (عبيد) يُصبح النموذج الأقرب إلى الاستحضار فى إطار توعية كل مصرى بمهمته فى تفكيك قنابل التطرف، ويصير تعميم النموذج اختصارا (هُوَ)، والمقصود كلُ مِصريٍ على ثغره وفى حقله أو منبره، فالقضية ليست (عبوة ناسفة) استطاع الشهيد الراحل أن يُفكك منها اثنتين وانفجرت الثالثة، وإنما خطوط انتاجٍ متكاملة تتطور عبواتها الناسفة بداية من الأفكار ووصولا إلى أن تصبح (قنبلة). ولا تَعمل خطوط إنتاج التطرف منفصلة عن عقيدة مشوهة تبذر التنظيمات جراثيمها فى عقول أصحابها حتى يغدو مُسيرين مسلوبى الإرادة والوعي، وهو ما يجعل قنابل التطرف مسقية ببارود عقَدِّيّ، وأمام هكذا خطر يُصبح كل تطوير فى قدرات وتقنيات تفكيك العبوات الناسفة فعل مواجهة قاصر مالم يواكبه تطوير فى عقيدة و أدوات مواجهة خطوط إنتاج التطرف المؤدية إلى إنتاج (العبوات الناسفة). قدّم الشهيد (عبيد) روحه برهان محبة فى هوى (مصر) التى لا يعدم هواها عشاقه، وحتى لا نخون هويً الشهيد المقدس، فإن نموذجه يُمكن أن يُبنى عليه تعميم مصرى ذاتى يصيغه سؤال يطرحه كل مصرى على واقعه (ماذا لو كان واجبا يوميًا عليّ أن أفكك قنبلة لأفتدى أسرتى وأهلى ووطني؟)، إن هذا السؤال المثير للتنبُه قادر على تفعيل أدوار كل عضو فى الأسرة الوطنية ليكون الحامى لوطنه من أن تنتشر فيه قنابل التطرف عبر جراثيم الأفكار قبل عبوات الانفجار، كما أن طرح هذا السؤال على ضمائر المفوضين بالإدارة من قبل صاحب السيادة يعصم أصحاب المسئولية من شبهات الاستبداد ويدعم ثبات الإدارة بتفاعل مكونات الوطن مع حربها. حَمَلَ الشهيد (مصطفى عبيد) هواه رسالة وطنية تترجمها مهنته (الأمن) وحقُه على كل مصرى أن يُصبح (هُوَ) المصرى القادر على أن يُترجم هواه الوطنى فعلاً يعصم الوطن من كل خطر ويحصن إنسانه من أى تهديد، ويؤكِد لأبنائنا أن كل من اعتصم بهوى (بهية) ما هوي. لمزيد من مقالات عبد الجليل الشرنوبى