فيما يطارد المِدَادُ مفرداتُه ليسطر هذا المقال، يكتشف أن صاحبه يسطر أول أحرفه فى يوم رحيل عامه الرابع بعد الأربعين، هذه المفاجأة تحيلُ القلم إلى أسئلة المصير الإنسانية التقليدية، رحلَتْ من سِنِيّ العمر ما رحلت، حفرت على جدران الروح آثارها وتجلت هذه الآثار متدثرة بكلماتٍ كانت رفيقة رحلة، ومؤنِسَ أسفار، ومُعيِنا على مراجعة المواقف والأفكار، ومَعينا للتأمل فيما كان أملاً فى أفضلٍ يكون، تُثْقِل الكلمات صفْحَة العُمْر بتجارب ومعارك ومحاولات وبقايا أحلامٍ تؤرق بأنينها مضجع السكون. يتذكر المِدَادُ أن شطر عمره قد انقضى فى أسر تنظيم الإخوان، آمن المِدَادُ بأن (الإسلام هو الحل)، وحتى الساعة ما زال إيماناً راسخاً بأن (الإسلام هو الحل)، لكن أيُ (إسلام) ذلك الذى هو (الحل)، بالتأكيد بعد عمرٍ من التجربة التى اختلط فى وعيها ما هو أزهرى بما هو تنظيمى حتى انتصر ما هو إنسانى على الجميع، ليتعدى إيمان مِدادى بالشعار حدود الاستثمار الذى باعه التنظيم لنا زوراً ليبنى مجده، كما باعه لنا حفظة تراث النقل بأثمان بخسة ليُأَمِنُوا رزقاً وموقعاً قريباً من السلطة ومميزاً فى الجنة، صار التدبر فى فلسفة الدين لإعماله بناءً وإعماراً هو الأصل، وبالتالى يُصبح (الدين هو الحل)، حيث إن كل دين أصل رسالته إعمار الحياة، وحين تتجرد الأديان من أسباب استثمارها اقتصادياً وسياسياً تتحول إلى طاقات روحية تسمو بالإنسان ليسير فى فلك التعمير على كل المستويات، وبالعودة إلى تاريخ شبه القارة الهندية قبل أن يقرِرَ المحتل الإنجليزى أن يفتتها عبر تغيير فلسفة الدين الإسلامى بإحلال العقيدة الوهابية، يمكننا ببساطة أن نكتشف الفرق بين إسلام التنظيمات الذى هو (حل) فعلاً لكامل مفاصل ماكينة التعايش، وبين أصل الإسلام الذى هو (حل) لكل معوقات عمل هذه الماكينة، إنه إيمانٌ قائم على مراجعات ذاتية غايته أن يرى الله مجرداً عن كل وكلاءٍ قرروا أن يكون هو غايتهم وحدهم، حيث تنزه عن كل وكيل وتعالى عن أن يجعل بينه وبين خلقه وسطاء، وعبر قرون عديدة هى محصلة عمر وطنى الإنسانى اختصرتها عقيدة قومى (الله محبة). شجار عنيفٌ دائم التجَدُّد بين مِدَادِ أفكارٍ أحملها، ومداد وطنٍ يحملني، ربما كان لهذا الشجار أثره فى تجدد خلايا الوعى الذاتى بما أكسبها ممانعة فى مواجهة الانسحاق داخل العالم التنظمي، تأخرَ الفرِار من الأسر التنظيمى لكن واقع الذكرى والمراجعة يسأل (ماذا لو عاد العمر)، ولا أجد مفراً إلا من خيارات ما كان، فلقد أثمرت تجربة الأسر التنظيمى رؤية لتفاصيل واقع عالم موازٍ لم يفر منه أحد ويقل إلا بحساب، ولقد قرر مِدَادى منذ اللحظة الأولى أن يكون حسبته الحق، ورقيبه الحقيقة، ولكل منهما فاتورة تُدفع على الدرب، وما أوْحَش السير فى هذه الدروب التى يُنْكرُها الجميع، لكن حسبُ مِدادى أن يكون لكَلِمِهْ المعجون بأوجاع المسير نبض حياة يتلقفه من ينشد صيانتها. يَهوى مِدادى أن يسطر فَنًا وأن يَنحَت جُمَلًا فى نظرة عشاق، أو لهفة مشتاق أو آهات فراق، وكلما حاول فى السنوات السبع الماضية، طغى طيف (بهية) على كل مشهد عشق، حتى اخُتُزِلَتْ فيها كل (حواء)، وتمحورت حولها كل أحرف الأشواق، واستبد الحنين إليها كما روت عنها جدتى فى طفولة تسكنني، (خضرا) التى يهواها كل من تقع عليها عيناه، يغدو مجذوبًا فى حضرتها، خلفها يسير ولا تمنحه رحيقها أبدًا. خَلَّفَ هذا الهوى بين مِدَادى و (بهية) مَدَدًا قادرًا على أن يتجاوز أسباب حصاره، لَكِنَّه حين صار عليه أن يُطِلَ عبر نافذة الوطن القديمة (الأهرام)، كان عليه أن يتَجمَّل قدر استطاعته ليحاكى ما استطاع قدر قامات أطلت عبر ذات النافذة، لكن فارق اللحظة الوطنية يجعل الكتابة بمداد هوى (بهية) فى هذه المرحلة أشبه بالسباحة عكس اتجاه شلال!، حيث تشيع تجارة المسكنات باعتبارها الأرحم من أوجاع الضغط على تقيحات الجروح . تنتهى مطاردات المداد للمفردات، ليستقر على أول عناوين عام صاحبه الجديد (علنى جدًا)، فبداية عام جديد من الكتابة فى زمنٍ مختلف بعد ثورتين، تحيل إلى مهَمَةٍ أساسية لكل (مِداد) هى (صناعة التَنْبيه)، بحيث يُصبح الهدف فى سن ما بعد الأربعين (عجن ملامح الواقع فى وعاء تجربة العمر وخبزها على نار الوعى ثم تقديمها لوجه الحق والحقيقة)، إنها رسالة قد تُعَنْوَن فى تقارير معنية بتصنيف (سرى جدًا)، لكن فرض التَنَبُه العام يقتضى إشاعة الرسالة، فالأصل أن مهددات واقعنا الراهن موجهة إلى الإنسان حيث كان، وبالتالى استحالت رسائل الاستنفار السرية، شعار استنهاض علنى وعلنى جداً. لمزيد من مقالات عبد الجليل الشرنوبى