على مرأى ومسمع من العالم..كل العالم، كان على «ياسين» أن يسير بخطى واثقة نحو الهزيمة، وكان عليه أن يتوج انهزامه بإكليل العار، وكان على «بهية» أن تحمل عار «ياسين» وأن ترمى ببصرها صوب القمة عازمة على الوصول ومستهدفة محو العار، وقاصدة «إكليل» الانتصار. إنه الفرق يا سادة بين لاعب «الجودو» المصرى الذى لم يستطع إحراز نقطة فى معركته، حين دخلها خالياً من كل روح، وخرج منها خاوياً من أى رؤية، وبين نموذجين ل «بهية» هما «سارة سمير» لاعبة رفع الأثقال المصرية التى حصدت المركز الثالث عالمياً، و«هداية ملاك» لاعبة التايكوندو المصرية والتى صنفت الثالثة عالمياً. نفس الفارق بين «ياسين» الذى حكم واستقر فى الحكم ثلاثة عقود، ثم خلف شبه وطن وركام دولة وبقايا رجولة، و«بهية» التى أبت السقوط فى مستنقع الأوطان المفتتة فكانت ظهيراً للتغيير وعمودا لثبات الوطن وباعثاً وصانعاً لثورة استرداد الدولة حتى استهدفها الجميع تقزيماً للدور وامتهاناً للمكانة واستخداماً للمتاجرة لا للتفعيل. ولكى يكون الهدف واضحاً فليست قضيتى هنا أن أنتصر لحواء الجنس قدر انتصارى لحواء الوطن، تماماً كما أننى لا أستهدف تحميل «لاعب الجودو» المصرى كل فواتير المرحلة، فما هو إلا إنعكاس لسوء أداء الإدارة الذكورية، وفى هذا الصدد ما أكثر وأشنع خطايا «حواء» الإدارية ضمن ذات المنظومة الذكورية. إنما تستهدف هذه السطور محاولة رسم صورة حقيقية لمصر «بهية» الواعية القادرة على أن تتقبل خطاب تكليف يؤمن بقدرتها على الثأر (يا بهية خبرينا ع اللى قتل ياسين)، والحالية التى صار الخطاب المعتمد لها هو (طفى النور يا بهية) يتردد عبر إيقاع أغانى المهرجانات، بينما الصورة المصدرة معه «فتاة ترقص بملابس فاضحة»، مسافة شاسعة بين «بهية» التى كانت والتى أنتجناها ونروج لها. خضعت مصر «بهية» إلى عمليات متتالية من التأميم لصالح «ياسين» الذى أصر عبر عقود على أن يخيرها بين دخول «الحرملك» خضوعاً باسم «الله» أملاً فى الفوز بجنة عرضها السماوات والأرض، أو امتثالاً لسلطان قوته وعُدته وعتاده يقيناً بإخلاصه وتفانيه ووطنيته. وهكذا استحالت مصر «بهية» بين سندان ياسين «الدرويش» ومطرقة ياسين «الشاويش»، كلاهما يسعى إلى أن يملكها قلباً ويُقَولبها شكلاً، ويُخضعها جَبْراً لسلطان ذكوريته التى طالما جنحت، ويغتصب كل رحيقها حتى الثمالة .. ثمالة الوطن! إن التآمر على مصر «بهية» يتعدى مجرد استثمارها خدمة لمشروع التملك الذكورى، إلى حالة من التهميش المُشَوِه القادر على تمييع كل انتصاراتها من مضمونها بما يضمن ذوبانها فى بركة الهزائم الذكورية، ليصبح -مثلاً- شاغل وسائل إعلام -زماننا- هو (مدى اتساق زى بهية الرياضى مع مايوه الرياضة المتعارف عليه غربياً؟)، و(تبعية بهية لنوادى القوات المسلحة أو النوادى المدنية)، و(الجنسية الثانية لأم بهية البطلة وتوقعات أن تلعب لدولة أخرى غير مصر)، ومروراً ب (أصول بهية الدينية التى يحمل والدها اسم ملاك ومدى تماشى ذلك مع الأسماء الشائعة للمصريين المسلمين)، وكيف رد جمهور النجمة الفلانية التى أخطأت فى ذكر الترتيب العالمى لبهية المنتصرة حين دونت لتهنئها! هكذا يميع الانتصار الأنثوى من قبل الرسالة الإعلامية الذكورية التى تتاجر فى كل مكونات العصر لتكسب عدداً اكبر من ال (Like)، وتصاعد مستمر فى ال (Comment)، وزيادة غير مسبوقة فى ال (Share )، وجميعها بالطبع تعنى زيادة فى المكاسب المادية بغض النظر عن خسائر الوعى التى تستنزف الوطن وأهله. فى هذا الواقع المأزوم المهزوم، لا تفتأ مصر «بهية» تقدم يوماً بعد آخر كل دليل على أنها صمام أمان هذا الوطن، فهى من أدارت البيوت المصرية حين خلا الوطن من إدارة إبان ثورته الأولي، وهى من تقاطرت على الميادين حين عصر الرجال الليمون لتؤجج نيران ثورتها الثانية، وهى من تحارب بحريتها كل أيادى التحرش الحسى والدينى والسياسي، وهى من استخرجت (تحويشة عمرها) لتدعم أول مشروع قومى فى الجمهورية الوليدة (قناة السويس الجديدة)، وهى التى تواجه كل أنواع التنكيل عبر تصدير صورتها تارة (بترقص عمّال على بطال)، وثانية (مدمنة للاستعباد) وثالثة (مفرطة فى دينها) والقائمة تطول. خرجت مصر من أوليمبياد (ريو 2016)، مؤكدة أن ثلثى انتصاراتها مؤنث، عبر نجمتين لمعتا فى أفق العالم، كلاهما تحمل اسماً مصرياً لا يميِّز الدين (سارة سمير - هداية ملاك)، والأولى لم يعبأ «ياسين» بحلمها فرفض دعمها حتى بقبول تأجيل الامتحانات ورفضت هى لامبالاته وواصلت، كلاهما تخطت كل إخفاقات إدارة الذكور، وشحنتا ذواتهما بكامل شحنات التَأّهُل، ووضوح رؤية الهدف، وتمام إرادة الوصول. فكان التمثيل للوطن مشرفاً، والحضور فى المحفل العالمى راقياً، والوصول نتيجة منطقية على المستوى الشخصى رغم كونه غير متسق مع ضبابية المشهد الذكورى العام. ما أحوج «مصر بهية» إلى هكذا وعى على مستوى الإرادة حتى يستطيع (ياسين) أن يتجاوز كل خطاياه السابقة ويغسل عاراً وطنياً قبل أن يدونه التاريخ وقبل أن يقف كل ياسين بين يدى بهية تقول له متحسرة (ابكى كما تبكى النساء على ملك لم تحفظه حفظ الرجال). لمزيد من مقالات عبد الجليل الشرنوبى