فى كلمة وزير الخارجية البرازيلى الجديد، فى أول حكومة يشكلها الرئيس اليمينى القومى المنتخب بولسونارو، دعوة الى مواطنيه للتخلى عن العولمة التى نعرفها، والعودة الى ما سماه العمل عكس العولمة والتحرر من قيود الاشتراكية والثقافة الماركسية التى سارت عليها البرازيل طوال عهدى الرئيسين لولا دى سيلفا وخليفته ديلما روسيف فى الفترة من 2003 الى 2016. هذه الدعوة تعكس بدورها جوهر أفكار الرئيس المنتخب بولسونارو، والمصنف بأنه قومى متطرف ويمينى الفكر، ومناهض للاقليات وأصحاب البشرة غير البيضاء، والداعى إلى تنظيف البرازيل مما لحقها من فساد إبان الحكم الاشتراكى. وفى السياق الأمريكى اللاتينى بات ينظر إلى بولسونارو باعتباره ترامب البرازيل، المنقلب على سياسات الانفتاح على العالم والداعى إلى التركيز على الشأن الداخلى مع التعاون مع القوى الكبرى التى تتشابه مع رؤيته للعالم ومواجهة ما يراه الأضرار التى تسببت فيها العولمة. ومن بين تحركاته السريعة بعد يومين فقط من تنصيبه مطلع يناير الجارى أن وجه الاتهامات إلى فنزويلا وكوبا اليساريتين، ومؤكدا ابتعاد البرازيل فى عهده عن التعاون معهما، كما بشر بالانسحاب من ميثاق الأممالمتحدة للهجرة وبحث الخروج من اتفاقية باريس للمناخ. بالطبع يمكن النظر إلى هذه البداية كنوع من التحول الدرامى فى السياسة البرازيلية بوجه عام داخليا وخارجيا، ولا تخلو من تأثيرات على عدد من المتغيرات الدولية، وهى فى حد ذاتها تعبير عن نمو توجهات مضادة للعولمة بمعناها الاقتصادى والثقافى فى عدد كبير من الدول والمجتمعات، والتى باتت تتوجس من سياسات الأسواق المفتوحة التى تتحكم فيها الشركات الكبرى، وبما يزيد من فجوات الثروة وتعميق الفقر أفقيا ورأسيا. وأيضا حيث انسياب الأفكار والثقافات من الأكثر تفوقا على من هم اقل قدرة على الإبداع والإنتاج وتوليد الفكر وبناء ما هو جديد وجاذب. وما التوجهات اليمينية والشعبوية التى تنتشر الآن فى عدد من الدول الاوروبية، وحتى فى داخل الولاياتالمتحدة نفسها رغم أنها الدولة المؤسسة لمرحلة العولمة، إلا تعبير عن حالة أزمة مجتمعية ونوع من التعب من التأثيرات التى جلبتها العولمة ولم يكن يُحسب لها حساب فى البداية، والحل لدى هؤلاء يتمثل فى العودة خطوات كبرى الى الخلف، والانكماش على الذات، والتحلل من الأعباء الدولية، والتمسك بفكرة السيادة المطلقة، والتحرر من قيود المعاهدات الدولية الجماعية، وإعطاء الأولوية لكل ما هو محلى على ما هو دولى أو عالمى، والتملص من الاخلاقيات التى تفرض مساعدة الآخر أو قبول المهاجرين من بلاد المعاناة، اللهم إلا إذا كان وراء ذلك مصلحة مؤكدة. برازيليا تبدو هناك معضلة وتناقض كبيران، فالتطور الاقتصادى الكبير الذى حققه الرئيس لولا دى سيلفا عبر ثمانى سنوات من حكم الحزب العمالى الاشتراكى النزعة، لم يرتبط بسياسات تأميم أو أفكار اشتراكية جامدة على النمط الماركسى الكوبى أو السوفيتى سابقا، بل بسياسات جمعت بين تطبيق بعض وصفات صندوق النقد الدولى الليبرالية مع برامج تقشف فى السنوات الأولى لحكمه، وبرامج دعم مشروط للأسر الفقيرة، وسياسات نمو زراعى وصناعى، وتخفيف الأعباء الضريبية، وتخفيض الفوائد بما رفع الطلب على القروض للمشروعات الصغيرة والمتوسطة، ونشر التسامح بين المكونات العرقية للبرازيليين، والدخول فى شراكات تجارية واقتصادية مع دول أمريكا اللاتينية، وسياسيا عدم الدخول فى مغامرات خارجية والاحتفاظ بعلاقات متوازنة مع دول العالم المختلفة، والاهتمام بعلاقة معقولة مع الولاياتالمتحدة بلا توترات مصطنعة، وهو ما أدى إلى قدرة البرازيل على سداد كامل ديونها التى تراكمت فى عهد الرؤساء السابقين الى 250 مليار دولار، بل إقراض البنك الدولى 10 مليارات دولار، وصعود الاقتصاد البرازيلى الى المرتبة السادسة عالميا متخطيا بذلك بريطانيا فى العام 2016، وتقلص الفقراء الى اقل من 12% من اجمالى السكان بعد ان كان نحو 65% فى بداية حكم الحزب العمالى. وهذه كلها انجازات كبرى جعلت من لولا دى سيلفا الرئيس الأكثر شعبية فى تاريخ البرازيل، وأيضا انجازات اقتصادية لم تكن تتحق الا من خلال اقترابات استفادت من حالة العولمة وتشابك الأسواق وحرية التبادل التجارى وتحسين الاحوال المجتمعية. صحيح أن بعض الشعارات التى طرحت كانت ذات صبغة اشتراكية لاسيما ما تعلق بحقوق الفقراء فى معيشة أفضل وفى تعليم أفضل وصحة وسكن انسانى، لكنها لم تكن سياسات انغلاقية أو شوفينية كالتى يبشر بها الرئيس الجديد. لكن المثير هنا تلك الاتهامات التى أقرها القضاء البرازيلى بحق كل من الرئيسين دى سيلفا وخليفته ديلما روسيف، بالإدانة فى سلوك فاسد والحصول على رشى وتسهيلات لشركات خارج القانون، ومن ثم الحكم عليهما بالسجن. ويبدو أن الاتهامات بالفساد لا تتوقف عند هذين الرئيسين، وأحدهما كان رمزا لنجاح فائق. والغالب أن هناك شقاً من الاتهامات به شبهة تسييس، ولكن الأحكام القضائية أعطت مصداقية أكبر لخطاب الرئيس المنتخب لاسيما عند تركيزه على نيته محاربة الفساد بشراسة. المسألة ليست متعلقة بالعولمة، فالسلع البرازيلية سواء المصنعة أو فى حالتها الخام تحتاج إلى الأسواق الخارجية، وفى حال اتخذ الرئيس الجديد سياسات انغلاقية أو بدأ حروبا تجارية مع جيرانه أو انسلخ عن تجمع الميركور الاقتصادى التجارى مع دول أمريكا اللاتينية الاخرى، فسوف تفقد تلك السلع البرازيلية أسواقا كبيرة، وستكون المحصلة تراجعا فى الدخل القومى وزيادة فى الأعباء الداخلية. وتشير الشواهد العالمية الاخرى التى اتخذت منحى انكماشيا على الذات وانقلابا على المعاهدات الدولية، أن أثمانها عالية للغاية، فقد تحقق بعض الميزات المحلية على المدى القصير، كما هو حادث فى الاقتصاد الامريكى فى عهد ترامب والآخذ فى التحلل من التزامات دولية كثيرة والمحقق ارتفاعا متوسطا فى الناتج القومى، ولكنه سيتعثر على المدى المتوسط والبعيد، وكما هو حادث أيضا فى بريطانيا فى ظل البريكست غير المكتمل بعد. والمسألة ليست فى العولمة فى حد ذاتها، ورغم أنها بحاجة إلى اصلاحات جماعية دولية، ولكن فى التوجهات القومية والشوفينية والانعزالية التى يتبناها بعض الزعماء دون تحسب من نتائجها الكارثية عليهم وعلى الغير. لمزيد من مقالات د. حسن أبوطالب