انشغل تحليل قرار الانسحاب الأمريكى من سوريا بالسؤال التالي: من سوف يملأ الفراغ الذى سيتركه هذا الانسحاب؟ يبدو السؤال مشروعا بالنظر إلى أن كل فراغ لابد له من قوة تملؤه، لكن المثير للانتباه أن حالة التباكى على الانسحاب الأمريكى وصلت إلى حد خُيّل معه للمرء أن الوجود الأمريكى فى سوريا لم يكن احتلالا وإلا كان من المنطقى أن يكون خروج القوات الأمريكية مدعاة للابتهاج ،لأنه يعنى تحرير قطعة من الأرض السورية. نعم كان القرار مفاجئا وهذه المفاجأة يمكن انتقادها من زاوية تفرد الرئيس الأمريكى بصنع القرار لكن الانتقادات تجاوزت هذه الزاوية المحددة وانصبت على واقعة الانسحاب نفسها وكأن القوات الأمريكية كان يفترض أن تستمر لسنوات طويلة، أو كأن وصف الاحتلال هو وصف قيمى يتوقف على طبيعة العلاقة مع القوات الأجنبية على الأرض بحيث لا يرى البعض أن الوجود الأمريكى يعد احتلالا، تماما كما لا يرى البعض الآخر أن الوجود الروسى أو الفرنسى أو الإيرانى أو التركى...إلخ يمثل احتلالا، لكن الأشياء يجب أن تسمى بمسمياتها الصحيحة. السؤال يثور إذن حول من سيشغل الفراغ الأمريكى فى سوريا؟ لكن إجابة هذا السؤال ترتبط بإجابة سؤال آخر هو: أى فراغ ستتركه أمريكا من ورائها؟ فمن المنطقى أننا لكى نعرف من سيخلف أمريكا فى سوريا علينا أن نبدأ بتحديد ماذا كانت تفعل القوات الأمريكية. ولقد قام ترامب بهذا التحديد عندما برر انسحابه من سوريا بأن تنظيم «داعش» جرت هزيمته على نطاق واسع وأنه على الدول الإقليمية الأخرى بما فيها تركيا أن تكون قادرة على الاهتمام بما تبقى من هذا التنظيم. بعبارة أخرى فإن القوات الأمريكية دخلت سوريا لمحاربة «داعش» وستغادرها بعد أن أنجزت مهمتها إلى حد بعيد، فإذا كان الأمر كذلك فهل تصلح تركيا - التى حددها ترامب بالاسم - لاستكمال ما بدأته أمريكا وتقوم بالإجهاز على «داعش»؟ هذا أمر مشكوك فيه، ومن يقرأ التحليلات المنشورة فى الصحف والمجلات الأمريكية سيجدها تحشد العديد من المبررات للتشكيك فى رغبة تركيا فى شغل هذا الفراغ، فتركيا أولويتها القضاء على قوات سوريا الديمقراطية ووحدات حماية الشعب الكردى وليس استئصال «داعش»، وتركيا وإن عانت هجمات خلايا «داعش» داخلها فى العامين الماضيين لكنها بمنطق أن عدو العدو صديق تقدّر دور «داعش» فى ردع طموحات أكراد سوريا، وتركيا ترعى الجيش السورى الحر الذى من المعلوم أن بعض قادته كانوا قادة سابقين فى تنظيم «داعش» وهناك من المحللين من أضاف أهدافا أخرى لتركيا فى شرق الفرات منها ما يتعلق بتحقيق مكاسب داخلية قبل الانتخابات البلدية المقبلة، ومنها ما يتعلق باستعادة بعض أمجاد الإمبراطورية العثمانية، لكن فى العموم فإن محاربة «داعش» آخر ما تهتم به تركيا. بعد أسبوعين على تغريد ترامب بأن مهمة القوات الأمريكية قد انتهت فى سوريا بانتهاء خطر «داعش» برز إلى السطح الحديث عن خطر النفوذ الإيرانى، وفى لقاء مايك بومبيو وزير الخارجية الأمريكى مع نظيره الإسرائيلى فى ريو دى چانيرو ذكر أن قرار الانسحاب لن يغير ما تعمل من أجله الإدارة الأمريكية وهو استمرار حملة مكافحة «داعش» ومواجهة العدوان الإيرانى ودعم إسرائيل. هنا يصبح ترامب أكثر صراحة فى تحديد الدور الذى كانت تقوم به قواته فى سوريا وهو محاصرة إيران ومنعها من تهديد أمن إسرائيل، أما مسألة القضاء على «داعش» داخل سوريا ففيها كثير يقال، منها تعهد ترامب بالانسحاب من سوريا فى حملته الانتخابية، ومنها تسليمه الأكراد لتركيا فى عفرين رغم بسالتهم فى محاربة «داعش»، وأهم من كل ذلك أنه يعتبر إيران الراعى الأكبر للإرهاب فى العالم وهى التى يستهدفها بكل مشروعات التحالف فى المنطقة من أول التحالف الإسلامى حتى ما سمى بالناتو العربى، فمن فى سوريا بالضبط سينوب عن أمريكا بعد انسحابها من سوريا فى محاصرة نفوذ إيران؟ إن القوى النافذة على الأرض لن تفعل ذلك فثنائى روسياوتركيا يحتاجان إيران بحكم شبكة العلاقات والولاءات التى كونتها إيران داخل سوريا، وفرنسا بالتأكيد لن تفعل ذلك ولا الأكراد الذين هم فى مواجهة حاليا مع تركيا لا إيران، ولا يتبقى إذن سوى «داعش» فهل يحتاج الأمر لتخفيف الضغط على «داعش» ليشكل قوة موازنة لإيران؟ غير مستبعد، فداعش ورقة بيد الجميع، وقد هدد الأكراد أنفسهم بإطلاق الدواعش الموجودين فى سجونهم. ستخرج القوات الأمريكية من سوريا بعد أيام أو شهور وهذا تطور إيجابى، وإذا كانت الولاياتالمتحدة تبحث قبل انسحابها عن قوات من دول أخرى تحاصر إيران وتحمى إسرائيل فليس هناك من هو مستعد ليحارب للولايات المتحدة حروبها، أو من المفترض ذلك. أما كيف يتم ملء الفراغ الأمريكى فى سوريا فإن هذا يتطلب أولا تقوية الدولة السورية التى لم يستشر فيها نفوذ القوى الإقليمية والدولية بهذا الشكل إلا بعد إضعاف سوريا وتفكيك أوصالها، وهذا يعنى أهمية السير فى ثلاثة مسارات متوازية هى إعادة بناء مؤسسات الدولة والإصلاح السياسى وإعمار ما خربته ثمانى سنوات من الحرب الضارية. كما أن ملء الفراغ يتطلب ثانيا تعزيز الانفتاح العربى على سوريا كما حدث من قبل مع العراق، فليس من المعقول أن نترك سوريا وحدها ونعاقبها على أنها اتجهت لإيران. لمزيد من مقالات د. نيفين مسعد