بدا الرئيس الروسى بوتين فى مؤتمره الصحفى السنوى الذى تجاوز عددهم 1700 صحفى، فى 20 ديسمبر، متفائلا، واثقا, ومن بين طيف واسع من القضايا الداخلية والإقليمية والدولية التى تناولها الرئيس بوتين فى رده على أسئلة الصحفيين، كانت تلك الخاصة بقرار الرئيس الأمريكى ترامب فى 19 ديسمبر بسحب القوات الأمريكية من كل الأراضى السورية بعد تحقيق ما وصفه بالنصر فى الحرب على تنظيم داعش، والذى حدد مسئولون أمريكيون مدة زمنية له بين 60 و 100 يوم. وقد وصف الرئيس بوتين قرار ترامب بأنه خطوة صحيحة باعتبار الوجود العسكرى الأمريكى فى سوريا غير شرعى، وأن هذا أمر ممكن، لاسيما مع السير فى طريق التسوية السياسية، وليس هناك حاجة للوجود العسكرى الأمريكى فى سوريا للتوصل إلى هذه التسوية؛ إلا أنه شكك فى التنفيذ الفعلى والكامل لها، فقد أشار إلى أن للولايات المتحدة حضورا فى أفغانستان منذ 17 عاما، وكل عام يتحدثون عن الانسحاب من هناك، لكنهم ما زالوا موجودين. والتشكيك فى الخطوة الترامبية له ما يبرره، وفضلا عن العامل الذى أشار إليه الرئيس بوتين، والمتمثل فى الخبرة التاريخية للتدخلات الأمريكية، والتى تؤكد أن القدم الأمريكية لم تطأ مكانا وانسحبت منه، وسبق وأن أعلنت انسحابها من العراق، ولم تفعل بل وصاحب توقيع اتفاق الانسحاب إعلان الدولة الاسلامية داعش. فإن هناك عدة اعتبارات أخرى تثير الشكوك حول القرار، أهمها المعارضة الشديدة من جانب المؤسسات الأمريكية والتى وصلت إلى حد استقالة وزير الدفاع الأمريكى فى اليوم التالى لقرار ترامب، وعبر بعض المسئولين فى البنتاجون عن تخوفهم من أن انسحاب القوات الأمريكية سينتج عنه فراغ لمصلحة إيرانوروسيا، وأن قرار ترامب لم يكن مدروسا بعناية وربما جاء على عجل يؤكد ذلك أن المبعوث الأمريكى الخاص إلى سوريا، جيمس جيفرى، أكد قبل يومين من قرار ترامب أن بلاده ستبقى فى سوريا حتى هزيمة داعش وإلى أن تكبح النفوذ الإيرانى، ويتم إيجاد حل سياسى للحرب فى سوريا. كما يلقى القرار معارضة داخل الكونجرس واستنكر السيناتور الجمهورى، ليندسى جراهام، القرار وطالب الرئيس الأمريكى بالعودة عنه. يضاف إلى هذا المعارضة الإسرائيلية للقرار، واعتباره فشلا سياسيا وأمنيا لترامب ولرئيس الوزراء الإسرائيلى، انطلاقا من أن الانسحاب يرسخ لإيران موطئ قدمها فى سوريا، وأن اعتبار تنظيم داعش الهدف الوحيد لواشنطن فى سوريا، يظهر تجاهلا خطيرا للوجود الإيرانى المتنامى هناك ومايمثله من تهديد لإسرائيل. ويبلغ حجم القوات الأمريكية فى سوريا 2130 جنديا، ويتركز الوجود العسكرى الأمريكى فى قاعدتين جنوب وشمال سوريا، الأولى هى قاعدة التنف، وتقع على بعد 24 كم من الغرب من معبر التنف الحدودى فى محافظة حمص، وفرضت الولاياتالمتحدة منطقة آمنة حولها بلغت 55 كم. وتعتبر روسيا أن القاعدة والمنطقة الآمنة ثقب أسود نظرا لكونها غطاء آمنا لآلاف المسلحين، وفيها تم تدريب الآلاف من مقاتلى مغاوير الثورة، ومنها انطلقت عدد من عمليات داعش كان أبرزها هجومها على السويداء، فى حين لم يتم تسجيل عمليات أمريكية انطلقت من التنف ضد داعش. وقد أدت سيطرة الجيش السورى على كامل ريف دمشقالجنوبى ومعظم بادية السويداء الشرقية والشمالية الشرقية إلى التقليل من الأهمية الاستراتيجية لقاعدة التنف وجعلتها معزولة، ومن الصعب استخدامها للانطلاق فى مواجهة دمشق وحلفائها. والثانية:قاعدة خراب عشك فى المنطقة الكردية شمال شرق سوريا، جنوب شرقى كوبانى. ويبدو أن التوجه هو نحو تخفيض الوجود العسكرى الأمريكى فى سوريا وتحريك القوات الأمريكية باتجاه كردستان العراق ومحافظة أربيل، وأشارت مصادر إلى أن قافلتين عسكريتين أمريكيتين تضمان شاحنات تحمل على متنها مدرعات ووحدات مدفعية غادرتا قاعدتى، رميلان وجمعاية بريف الحسكة باتجاه معبر سيمالكا الحدودى مع العراق، تزامنا مع توجه عشرات الموظفين فى الخارجية الأمريكية إلى معبر الوليد للعبور إلى العراق. وقد تكون خطوة ترامب مناورة لتخفيف الضغط المؤسسى عليه الذى تصاعد عقب إقرار مايكل كوهين المحامى السابق لترامب بالكذب خلال شهادته أمام مجلس الشيوخ فيما يتعلق بالتحقيقات حول التدخل الروسى فى الانتخابات الأمريكية، وإنه أدلى بتلك الشهادة بدافع الولاء للرئيس، وذلك إما بالدخول فى صفقة مع المؤسسات، كما حدث سابقا، أو بإلهائها بقضية أخرى. كما قد تكون محاولة من جانبه لمزيد من الابتزاز لعدد من الشركاء الإقليميين ذوى المصلحة والحرص على بقاء القوات الأمريكية فى سوريا لتحمل المزيد من تكلفة هذه القوات. إن الأيام وحدها هى التى ستؤكد مصداقية قرار ترامب وأهدافه، وهل سيكون كسابق القرارات الأمريكية بشأن أفغانستانوالعراق، أم سيمثل إيذانا بتغير حقيقى فى السياسة والدور الأمريكى فى المنطقة، ليصدق على ترامب القول: أفلح إن صدق. لمزيد من مقالات د. نورهان الشيخ