بعد تنسيق على أعلى مستوى مع الجيش العربي السوري حسب ما صرّح به قادة الحشد الشعبي العراقي منذ نحو أسبوعين، نجح الحشد في تطوير هجومه على داعش على محور "الرطبة" في الداخل العراقي المحاذي لشمال معبر التنف المسيطَر عليه أمريكيا، مقتربا إلى أقصى درجة، حتى اللحظة، من أحد النقاط الوسطى للحدود مع سوريا، بموازاة عملية التفاف واسعة قام بها الجيش السوري فأوقف تطوير هجومه المتجه إلى معبر التنف على الحدود، وآثر الالتفاف حول محور الهجوم واستكمال التقدم في محور آخر وصل به بالفعل إلى هدفه الاستراتيجي الموضوع منذ الانطلاق في "عملية طريق الشرق": الوصول إلى الحدود مع العراق. ويبدو أن السوريين قرروا إعطاء الأولوية لوضع نقطة انطلاق تمهد للذهاب إلى دير الزور الواقعة تحت سيطرة داعش في الشمال، والتي ترابط فيها حامية سورية صامدة آخذة في توسيع نطاق سيطرتها وسط بحر من السيطرة الداعشية الصحراوية، كما قرروا تأجيل أو"تبريد" المواجهة مع الفصائل المصنوعة أمريكيا وأردنيا والمنتشرة في محيط معبر التنف، ومن ثم مواجهة محتملة – وقع شيء منها بالفعل – مع القوات الأمريكية نفسها. قبل الالتفافة المفاجئة حدثت العديد من الاحتكاكات بين القوات السورية المتقدمة والقوات الأمريكية مباشرةً، احتكاكات لم ترقَ إلى أن تكون اشتباكات لكنها أثارت في حينها القلق الإقليمي والدولي من انفجار الموقف برمته، مع وجود الطيران الروسي في الأجواء مكمّلا لخط أحمر موضوع روسيًا تم توريط القوات الأمريكية فيه بحكم الأمر الواقع، بخصوص عمق تقدم الفصائل الوكيلة ومن خلفها القوات الأمريكية في صحراء سوريا، فحتى الآن لم يذهب هذا التكتل إلى العمق السوري على حساب الجيش كما أنه – لأسابيع مضت – لم يعمل على الهدف من وجوده الذي تدّعيه أمريكا في العلن وهو "محاربة داعش"، فشهد الموقف العسكري لهذا التكتل سكونا شبه كامل باستثناء قصف رتل سوري متقدم من مثلث ظاظا فالسبع بيار نحو معبر التنف، واشتباكات جرت بين القوات السورية المتقدمة والفصائل المصنوعة أمريكيا، خلّفت هزيمة كاسحة لتلك الفصائل التي سمح لها السوريون بالتقدم في أحد مراحل الاشتباك وانسحبوا تكتيكيا، ثم عادوا بعد ساعات وأزاحوها بخسائر كبيرة لها، الأمر الذي يشير إلى أن المرحلة القادمة، في حالة استكمال الجيش السوري لتقدمه، كانت الدخول في مواجهة مع القوات الأمريكية المرتكزة خلف تلك الفصائل والمستخدمة لها كدرع بشري لامتصاص الهجمة السورية وتجنب وقوع خسائر أمريكية. عامل فارق آخر أسهم في الالتفافة السورية، هو شروع القوات الأمريكية ومن يرافقها من قوات بريطانية وفصائل مصنوعة أردنيا في إقامة قاعدة عسكرية صغيرة جديدة، تقع إلى الشمال من قاعدة التنف ولكن داخل العمق السوري وليس على حد الحدود مع العراق، الأمر الذي قرأه السوري فورا على أنه إعادة تفكير أمريكية في خيار الذهاب إلى دير الزور وطرد داعش منها، أي أن يسبق الوصول الأمريكي إلى دير الزور تقدم الجيش السوري نحوها من محور تدمر – السخنة (ريف حمص الشرقي)، وبدا هذا خيارا منطقيا في ظل كون القوات الأمريكية وتوابعها لم يحققوا ولا يحققون شيئا فعليا كفيلا بتغيير المعادلة القائمة منذ سيطرتهم على محيط التنف، نعم سيطرت الفصائل المصنوعة أمريكيا وأردنيا على قطاعات من شرق محافظة ريف دمشق وقطاعات من الصحراء السورية، لكن التقدم السوري نحو التنف من محور ريف دمشق والتقدم المساند له من محور شمال محافظة السويداء، كفَلا تراجع سيطرة تلك الفصائل وانسحابها من المحيط المديني لمدن وقرى وبلدات ريف دمشق نحو الصحراء، ومن هنا قُطع الطريق على مبدأ وهدف تهديد العمق الحيوي لدمشق وللسويداء في آنٍ واحد، وانحصرت الفصائل في قطاع صحراوي محض من الصعب "الارتكاز" فيه وإن كان من الأسهل التحرك فيه وهو ما لم تنجح في تحقيقه، ومن السهل ضربها فيه مع انسداد أفق تقدمها وعجزها عن التحرك في مواجهة منطقة باتت صلبة من سيطرة الدولة السورية في ريف دمشق، فضلا عن أن تدمر في ريف حمص الشرقي (إلى الشمال من قطاع معبر التنف وقلب صحراء سوريا) أصبحت بمثابة "مروَحة" عسكرية سورية تدور بشكل مكثّف، وتبعث انطلاقات متتالية ومتسارعة نحو شرقها وشمالها وشمالها الغربي، وأخيرا نحو جنوبها بالتقدم السوري نحو خط الحدود شمال التنف، فكانت مُحصلة ذلك انسداد شِبه كامل لخيارات تمدد تلك الفصائل في ريف حمص الشرقي على حساب داعش، التي تتلقى الضربة تلو الأخرى من الجيش السوري وتنزاح نحو دير الزور، كما استمر عجز تلك الفصائل عن التقدم نحو البوكمال في دير الزور على حساب داعش، ولعل هذا ما دفع القوات الأمريكية لإقامة مرتكز جديد للتسليح والإمداد في القاعدة العسكرية الجديدة. منذ قيامها في أقصى شرق حمص على الحدود مع العراق كثيرا ما حاولت الفصائل الأمريكية الأردنية السيطرة على البوكمال في دير الزور تحت غطاء جوي أمريكي. محاولات لم تفلح ولم تغير من خارطة السيطرة في تلك النقطة الاستراتيجية على الحدود مع العراق والتي تسيطر عليها داعش مع كامل محافظة دير الزور تقريبا، التي تكتسب أهمية السيطرة عليها من ذلك تحديدا، أي ارتكاز داعش فيها كمعقل حَضَري أخير بعد سقوط الرقة أمام قوات سوريا الديموقراطية وسقوط الموصل أمام الدولة العراقية، فضلا عن وقوعها على قطاع كبير من الحدود العراقية السورية مما يكسبها الأهمية الأكبر للأمريكيين وللسوريين وللعراقيين. ويمكن قراءة الوصول السوري لخط الحدود مع العراق في جنوب البوكمال، الذي ترافق مع وصول الحشد الشعبي العراقي للنقطة الموازية من داخل العراق طاردا داعش، على أنه سيمثل منطلقا للبوكمال مما سيجعل الجيش السوري يواجه الفصائل سابقة الذكر وليس داعش فقط، أو أنه سيتبعه الانطلاق إلى تدعيم الحامية السورية في دير الزور التي تشرع في التمدد هناك في انتظار الإمداد الذي تأخر نسبيا على الأقل بشكله المطلوب والكافي، فبطء السيطرة على السخنة شرق تدمر وصعوبة الجغرافيا هناك أخّر وصل تدمر بدير الزور بذراع السيطرة السوري المطلوب، وفي ذات الحين فالقوات السورية المندفعة من جنوب غرب الرقة بعد انتهائها من تطهير ريف حلب الجنوبي الشرقي من سيطرة داعش ستؤمن الإمداد لحامية دير الزور المحاصَرة لكنها لن تستطيع تأمين وضع البوكمال على الحدود نظرا لبُعد المسافة، من هنا كان الخيار بوصل تدمر بخط الحدود شمال معبر التنف، بشكل قد يفتح الباب لأن تنطلق معركة دير الزور الكبرى من محاور ثلاثة يتجه أحدها إلى البوكمال مباشرةً للسيطرة على القطاع الحدودي من دير الزور مع العراق، بالتعاون مع الحشد الشعبي من الداخل العراقي.