النمسا دولة صغيرة فى أوروبا لا تتجاوز مساحتها 84 ألف كيلو متر مربع، وعدد سكانها حوالى 8 ملايين نسمة ولها حدود مشتركة مع العديد من الدول الأوروبية منها ألمانيا، والمجر، وسلوفينيا، وسويسرا، وسلوفاكيا، وإيطاليا، والتشيك، وليس لها حدود ساحلية، أى أنها دولة مغلقة، ومع ذلك فهى تستقبل أكثر من 35 مليون سائح سنويا أى أكثر من ثلاثة أضعاف عدد السائحين الذين تستقبلهم مصر سنويا، رغم الشواطئ الممتدة والتنوع السياحى المتميز فى مصر. أما الطقس فى النمسا فهو قصة أخري، حيث يسود مناخ قارى بارد جدا وتنتشر الثلوج بكثافة طوال فصل الشتاء، ورغم الطقس البارد جدا وتغطية الثلوج الشوارع والمنازل وأسطح السيارات والمواصلات العامة، فالحياة لا تهدأ والعمل لا يتوقف. إدمان العمل فى النمسا هو سر النجاح وهو الذى أدى إلى حدوث طفرة ضخمة فى الاقتصاد النمساوى، ورغم أن عدد السكان هناك أقل من نصف عدد سكان محافظة القاهرة فإنهم يتفوقون فى إجمالى ناتجهم القومى الذى يبلغ 370 مليار دولار على إجمالى الناتج القومى المصري، لأنهم شعب لا يتوقف عن العمل والإنتاج رغم الظروف المناخية ورغم أنهم دولة مغلقة ليس لها حدود ساحلية. الفرق فى تصورى هو ثقافة العمل والإنتاج، وهى الثقافة الغائبة فى مصر والمنطقة العربية كلها، فالعمل هناك يساوى الحياة، فلا حياة بدون عمل جاد يستمد منه المواطن قيمته وقوته. تجربة النمسا الاقتصادية تجربة تستحق النظر إليها باهتمام والاستفادة منها لكى نخرج من دائرة الفقر والجهل والتخلف إلى آفاق الحضارة والتقدم. زيارة الرئيس عبد الفتاح السيسى النمسا كانت زيارة مهمة وناجحة بكل المقاييس ورغم ضيق الوقت، فقد شملت الزيارة زيارتين فى آن واحد الأولى زيارة ثنائية شملت العديد من اللقاءات الثنائية بدأت باللقاء بين الرئيسين المصرى والنمساوي، ومرورا باللقاء مع المستشار النمساوى وانتهاء باللقاء مع رئيس البرلمان، ثم كان الهدف الثانى للزيارة وهو حضور القمة الأوروبية الإفريقية. فى اللقاءات الثنائية كانت هناك إشادة نمساوية بخطوات الإصلاح الاقتصادى المصرى والمشروعات القومية الكبرى الجارى تنفيذها فى مصر الآن، مع التأكيد على حرص النمسا على مساندة جهود مصر التنموية ودعمها فى جميع المجالات من خلال تبادل الخبرات والاستثمار المشترك، خاصة فى ظل التطورات التى حدثت فى مصر مؤخراً من تذليل لجميع الصعاب التى تعوق تدفق الاستثمارات الأجنبية فى مصر، مما جعل السوق المصرية سوقاً جاذبة وواعدة للاستثمارات الأجنبية فى مختلف المجالات الصناعية والتكنولوجية والزراعية وتكنولوجيا المعلومات وقطاع الاتصالات والبنية التحتية وغيرها من مجالات الاستثمار القادرة على استيعاب الاستثمارات الأجنبية المتنوعة. على الجانب الآخر فإن عودة الاهتمام المصرى بأفريقيا جعلها حريصة على المشاركة فى كل الفعاليات التى تخص القارة السمراء وآخرها القمة الأوروبية الإفريقية التى جرت وقائعها فى فيينا يوم الثلاثاء الماضى خاصة أن مصر سوف تتولى رئاسة الاتحاد الإفريقى فى بداية العام المقبل وهو الأمر الذى يضاعف دورها ومسئوليتها فى هذا المجال بالإضافة إلى الاهتمام المصرى بإفريقيا الذى عاد بقوة منذ تولى الرئيس عبدالفتاح السيسى الرئاسة منذ 4 سنوات وانعكس ذلك على مشاركة مصر الفاعلة فى كل ما يخص شئون القارة والاهتمام برفع مستويات التعاون إلى درجة غير مسبوقة، سواء فى مجال التعاون الثنائى بين مصر ودول القارة أو التعاون فى مجال المنظمات الإقليمية مثلما حدث فى استضافة مصر منتدى التعاون مع دول الكوميسا الذى عقد مؤخرًا فى شرم الشيخ ويأتى حضور المنتدى الرفيع المستوى بين إفريقيا وأوروبا لتعزيز الشراكة بين القارتين الذى عقد فى الأسبوع الماضى فى النمسا فى هذا الإطار وعودة مصر إلى دورها الريادى فى إفريقيا واستعدادها لرئاسة الاتحاد الإفريقى خلال العام المقبل. من أهم الإستراتيجيات والأهداف التى تسعى مصر إلى تحقيقها خلال رئاستها الاتحاد الإفريقى هى إيجاد المزيد من فرص العمل للشعوب الإفريقية وتطوير البنية التحتية للقارة وتعزيز حرية التجارة فى إطار اتفاقية التجارة الحرة الإفريقية وبناء منظومة صناعية قوية، واستحداث إستراتيجيات جديدة لجذب الاستثمارات الدولية إلى الدول الإفريقية مع توفير بيئة أعمال مناسبة لرواد الأعمال على مستوى القارة وكذلك زيادة مساحة المشاركة المجتمعية للشباب والمرأة واستغلال طاقاتهم وتوسيع إسهاماتهم وتحديث كل قطاعات الصناعة والزراعة المختلفة. إفريقيا قارة شابة وفتية وأوروبا قارة متقدمة اقتصاديا وتكنولوجيا «لكنها أصبحت قارة عجوز»، وقد شهدت العلاقات بين القارتين فترات طويلة من الجفاء نتيجة السياسة الاستعمارية والعدائية التى كانت تنتهجها أوروبا تجاه إفريقيا مما زاد من اتساع الفجوة بين القارتين، إلا أنه بمرور الوقت أصبحت لغة التعاون هى اللغة الوحيدة المقبولة بين القارتين، بعد أن استوعبت أوروبا الدرس جيدًا خاصة مع تزايد أعداد المهاجرين إليها من إفريقيا. مصر تقوم من جانبها بدور مهم فى صد محاولات الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا رغم أنها تتحمل وجود أعداد هائلة من المهاجرين إليها يصل تعدادهم إلى حوالى 5 ملايين مهاجر من الدول الإفريقية والدول الأخرى التى تشتعل فيها النزاعات والحروب مثل ليبيا وسوريا واليمن. المهاجرون فى مصر يعيشون كالمواطنين، وليس لهم ملاجئ كما يحدث فى الدول الأوروبية، ورغم الظروف الاقتصادية الصعبة التى تمر بها مصر، فإنها تسمح لهؤلاء المهاجرين بالعيش بحرية داخل مصر وتقاسم لقمة العيش مع إخوانهم المصريين. من جانبها فقد أصبحت أوروبا على يقين تام بأهمية الدور المصرى فى هذا المجال وضرورة دعم مصر بما يجعلها تستطيع الصمود والاستمرار فى تلك السياسة وفى الوقت ذاته فإن أوروبا مطالبة بضرورة انتهاج سياسة جديدة تجاه القارة الإفريقية تقوم على ضرورة ضخ المزيد من الاستثمارات لدعم اقتصادات دول القارة فى إطار أشمل من تعميق الشراكة بين القارتين وتشجيع الابتكار ونقل التكنولوجيا فى مجالات الصناعة والزراعة والابتكار والمشروعات الصغيرة والمتوسطة. معالجة مشكلة الهجرة غير الشرعية تحتاج إلى حدوث تغييرات اجتماعية واقتصادية عميقة فى القارة الإفريقية للقضاء على جذور المشكلة ومنع تدفق الهجرة إلى أوروبا ولن يحدث ذلك إلا بإيجاد علاقات متوازنة بين القارتين وتقاسم المسئولية بين الطرفين بعيدًا عن لغة الاستعلاء القديمة ومن يعطى ومن يأخذ. على الجانب الآخر فإن على الدول الإفريقية الاستفادة من تجارب الدول الأوروبية بعيدًا عن انتظار المنح والعطايا ويكفى أن تجربة دولة النمسا التى استضافت منتدى »إفريقيا - أوروبا« وكيف أنها استطاعت أن تكون ضمن أقوى الدول الاقتصادية على مستوى العالم رغم أن عدد سكانها حوالى 8 ملايين نسمة ومساحتها صغيرة جدًا إذا قورنت بالدول الإفريقية (حوالى 84 ألف كيلو متر مربع) وطقسها شديد البرودة وليس لها حدود ساحلية ومع ذلك فقد نجحت فى القفز اقتصاديا بسرعة الصاروخ واستطاعت تنويع مصادر الدخل لديها، ليتفوق الاقتصاد النمساوى على الاقتصاد الألمانى فى العام الماضى ويصل متوسط دخل الفرد هناك إلى ما يقرب من 42 ألف يورو. أعتقد أن سر التجربة النمساوية يكمن فى العمل والإنتاج والإصرار على تخطى الصعاب مهما كانت، وهذا هو ما تحتاجه كل الدول العربية والإفريقية. فهل تتعلم الشعوب العربية والإفريقية الدرس وتستوعب التجربة؟! .. أتمنى ذلك! ------------------------------------------------------------- التجربة النمساوية فى تدوير المخلفات
تعتبر النمسا الأولى عالميا فى تدوير المخلفات، وفى الوقت الذى تبدو فيه المخلفات نقمة فى مصر وفى كثير من بلدان العالم، فإن الأمر يختلف فى النمسا حيث تسجل عملية تدوير المخلفات هناك نجاحا مذهلا مما يضع النمسا فى أول القائمة عالميا فى هذا المجال. نجحت النمسا فى التعامل الآمن وإعادة تدوير المخلفات بنسبة 68% تليها ألمانيا بنسبة 60%، وتستفيد من المخلفات فى توليد الطاقة الكهربائية واستخدامها فى أعمال التدفئة، وتحلية مياه الشرب، وفى كثير من الاستخدامات الأخري. الفريق التراس - اللواء العصار تبدأ المنظومة هناك بفصل المخلفات من المنزل، وهو النظام الأنسب للاستفادة بكل ما يعاد تصنيعه، وكل ما يعاد تدويره، بالإضافة إلى ضرورة وجود بنية تشريعية واضحة وقوانين صارمة يتم تطبيقها على الجميع. أما الشركات العاملة فى هذا المجال فهى التى تقوم بوضع خطط الاستفادة من تلك المنظومة فى ظل وجود رقابة حكومية صارمة وواضحة مع مراقبة كل النواحى الفنية والإدارية والمالية. تجربة النمسا فى تدوير القمامة يمكن الاستفادة منها فى مصر من خلال التعاون بين الهيئة العربية للتصنيع ووزارة الإنتاج الحربى ووزارة البيئة والقطاع الخاص لوضع خطة متكاملة لتصنيع المعدات اللازمة والتعاون مع شركات القطاع الخاص المؤهلة للعمل فى هذا المجال، ومن الممكن أن تكون هناك شركة أم تتبعها شركات فى المناطق المختلفة والمحافظات، والتعاون مع البنوك وشركات التأمين لتوفير التمويل اللازم لشراء المعدات والسيارات المجهزة للعمل فى نقل المخلفات، وإنشاء المصانع. الحكومة عليها وضع المواصفات القياسية لعمل الشركات، ووضع الأهداف والاستراتيجيات الخاصة بعملية تدوير المخلفات ومراقبة أداء الشركات، ومدى التزامها بالأهداف والخطط الموضوعة، والشركات من جانبها تقوم بأعمال الجمع من داخل البيوت والمخازن المخصصة لهذا الغرض، بحيث يتم نقل الورق إلى مصانع الورق مباشرة، والبلاستيك إلى مصانع البلاستيك، وهكذا فى كل أنواع المخلفات (منسوجات، زجاج، حديد، ألمونيوم،... إلخ) مما يسهم فى سرعة نقل هذه النوعيات إلى المصانع المخصصة لها، وسرعة الاستفادة منها فى إنتاج منتجات جديدة، أو استخدامها فى توليد الطاقة الكهربائية، بما يؤدى فى النهاية إلى تحويل المخلفات كأحد مصادر الدخل القومى لتكون مصر رائدة فى هذا المجال إفريقيا وعربيا، ويجعلها قادرة على نقل تجربتها إلى هذه الدول بعد ذلك. نجاح تجربة تدوير المخلفات فى مصر يجعلها تتحول من »نقمة« إلى »نعمة«، ومن »عبء« قاتل إلى »إضافة« للاقتصاد الوطني، ومن كارثة »بيئية« إلى نقلة حضارية رائعة لمدن وقرى مصر بعد أن يتم التخلص من أكوام القمامة المنتشرة فى كل مكان، وتحويلها إلى منتجات جديدة، ومصدر مهم من مصادر الطاقة. أتمنى أن يأخذ اللواء محمد العصار وزير الإنتاج الحربى والفريق عبدالمنعم التراس زمام المبادرة والبدء فى إطلاق هذا المشروع الحيوى والخطير الذى سوف يكون نقلة كبيرة ومهمة فى الشكل والمضمون للحياة فى مصر. لمزيد من مقالات بقلم عبدالمحسن سلامة