«لا تستهينوا بهذا الشاب يكاد يكون الوحيد بينهم الذى يعرف سياسة» قائل هذه العبارة إبراهيم باشا عبد الهادى رئيس وزراء مصر الأسبق فى عهد الملك فاروق، والذى كان السادات يعوده فى مرضه بعد الثورة ويقبل يده لكبر سنه ومقامه، وكانت محكمة الثورة قد حكمت عليه بالإعدام ولكن الحكم لم ينفذ، وحينما أصبح رئيسا بادر برفع الحظر عن أمواله.. مارس السادات السياسة منذ كان صبيا بالشورت القصير على حد تعبير منصور حسن.. وكانت نقطة التقاء بينه وبين أنيس منصور حين قابله بالصدفة عام 1969 فى أخبار اليوم وطلب منه أن يكتب فى السياسة وكان معجبا بأسلوبه فى الكتابة، وهو كوكتيل من التاريخ والأدب والفن، وأضافت له السياسة نكهة مميزة وعمرا أطول من الكتابة السياسية الآنية فقط.. فالسادات شخصية مركبة عاش بين الناس، لذلك كانت السياسة بالنسبة له فى أبسط تعريفاتها هى معرفة نبض الشعب.. فى حين أن الكتابة كانت حلما من أحلامه فقد مارسها منذ الأربعينيات حين بدأت مرحلة الاعتقالات فى حياته. حاول أنيس منصور أن يضفى على الشأن السياسى رونق الفلسفة ورقى الأدب وهو بطبيعته يرفض الأفكار المتحجرة أو الإطارات المذهبية فى الفكر فى السياسة أو الاجتماع أو الدين، وهو ما أراده السادات لرفع الوعى بصفة خاصة فى فترة الزيارة التاريخية للقدس ومعاهدة السلام. بعد فصله من الجيش بتهمة الاشتراك فى العمل لحساب الألمان أثناء الحرب العالمية الثانية تم إيداعه فى معتقل الزيتون وكان يزامله فى العنبر الطيار حسن عزت وبعض الزملاء، واقترح السادات خطة للهروب من غرفة الأرانب فى المعتقل وكان يشغلها سجين روسى لأن السجناء كانوا من مختلف جنسيات العالم، وكل من يشتبه أنه يعمل ضد بريطانيا ودول الحلفاء.. وكان هذا الروسى يقوم بتربية الأرانب فقام السادات – قبل صدور فيلم شاوشنك بخمسين عاما – بعمل فتحة فى سقف الغرفة وكان يقوم بالحفر لمدة عشر دقائق أثناء تغيير وردية الحراسة المجاورة لهذه الغرفة وكان التغيير يتم كل ست ساعات.. وبالدأب والصبر ومن خلال استعانته ببريمة حفر يشاركه فيها حسن عزت تم هروب أعضاء العنبر.. وحين استقر فى سجن مصر بعد سجنه فى قضية اغتيال أمين عثمان.. كتب مذكراته «30 شهرا فى السجن» وفيها تحدث عن الشباب الصغار الذين كانوا سجناء معه فى القضية وكانوا لصغر سنهم يطلقون عليه بابا أنور نظرا لحداثة أعمارهم.. «أحد عشر شابا عانوا الأهوال والليالى الأسود من الغربان» كما وصفهم وبعد خروجه من السجن عمل صحفيا بدار الهلال وبعد ثورة يوليو رئيسا لمجلس إدارة جريدة الجمهورية.. حينما غادر السفير البريطانى لامبسون مصر نهائيا – الذى حاصر قصر عابدين بالدبابات فى 4 فبراير 1942 - احتفل بهذه المناسبة فى السجن وقام بشراء دستة جاتوه وتوزيعها.. وفى مذكراته أيضا كتب عن ليلى الهندية التى أخبره السجانون أنها تحب السجين رقم (19) وكانت جميلة لها صوت رائع. ودفعه الفضول لرؤية هذا المحظوظ فوجده شابا جميل الطلعة أوروبى الملامح اسمه محمد ابراهيم كامل! سيصبح فيما بعد وزيرا للخارجية فى عهده ويستقيل اعتراضا على مفاوضات كامب ديفيد.. السادات كان شخصية شديدة الثراء يعشق الموسيقى والغناء بكل جوارحه على حد تعبيره يحب سماع الست وأسمهان.. فى محبسه قام بالاشتراك فى تأليف مسرحية وكان دور هارون الرشيد من نصيبه.. أخرج وزير ثقافة فى عهده لأنه تراخى فى تنفيذ أوامره بتخصيص معاش استثنائى لأسرة أحد كبار الفنانين الراحلين مستنكرا ما سيفعله هذا الوزير فى شئون أكبر وقرارات تمس الملايين وتشكل وجدان الشعب. فى أحد احتفالات عيد الفن الذى كان حريصا على إحيائه كل عام وتكريم أهله ورواده الأوائل.. لمح زكى طليمات وطلب منه المجئ وأسر إليه بعبارة انطلق بعدها طليمات فى الضحك بشدة، وفيما بعد أخبر الحاضرين أن الرئيس كان يداعبه لأن طليمات كان السبب فى رسوب السادات فى اختبارات الممثلين.. مرتديا بيجامته والروب المقلم فى استراحة القناطر متأهلا لسماع تقاسيم من بليغ حمدى أو محمد سلطان ومعه العود لكى يسمعه العيون الكواحل، ويغنيها معه على سبيل الاستدعاء الرئاسى.. هكذا أعتاد أن يغتسل من شوائب السياسة. لم تتغير شخصيته منذ عرفه الأصدقاء فى معتقل الزيتون.. شابا نحيفا هادئا.. أسمر البشرة.. منحوت القسمات.. دائم التأمل و الصمت.. وقورا، مهابا، أنيقا بالرغم من بساطة ملابسه كسجين، بل متأنقا ومن أشهر الرؤساء أناقة فى العالم بالرغم من أن مصمم ملابسه كان مصريا.. متأثرا بالأناقة العسكرية الألمانية.. أناقته كانت سينمائية وتعامله مع زوايا الكاميرا كان فى غاية الاحتراف.. شديد الحرص والكتمان.. صبورا.. مغامرا إلى أقصى حد. يجيد الإنصات للآخرين وبعد ساعة من كلام محدثه قد يكون رده إيماءة بالرأس.. كما أخبرنى بعض المصادر الذى تعاملت معه عن قرب.. كان لديه حنين دائم ووفاء نادر لأصدقائه القدامى.. بعد أن أصبح رئيسا ملء السمع والبصر يكلف كاتبا كبيرا مثل أنيس منصور بالذهاب لمنزل الحاجة (فلانة) وإعطائها هذه القطعة من القماش التى أحضرها لها الرئيس من الحجاز.. تلك هى الرسالة.. ويندهش أنيس منصور ويصعب عليه أن يعرف هل هذه السيدة قامت بمساعدته مثلا أثناء فترة هروبه؟ ولكن الرئيس الكتوم لا يفصح أبدا عن هذه الأسرار الإنسانية ويتكتمها تماما.. أما حبه لأهل قريته ميت أبو الكوم فكان لا يعادله حب على الدوام كان ممتلئا برائحة الأرض والهواء الطلق.. يكفى أنه تبرع بقيمة كتابه البحث عن الذات وجائزة نوبل للسلام لصالح بناء مساكن جديدة لأبناء قريته. بين السياسة والتمثيل والحكايات كان الزعيم الراحل من الحكائين الذين يمسكون بتلابيب مستمعيهم من أول لحظة.. التمويه والخداع الاستراتيجى كانت له استخدامات عديدة بخلاف ميدان الحرب.. لديه حيلة شهيرة إذا سُئل عن شئ واراد أن يأخذ وقته فى التفكير فيسرد حكاية (محفوظة) من حكايات جدته، وأثناء هذا السرد الآلى يكون قد جهز الجواب.. مفتونا «بالسحرة الجدد» ممثلى هوليوود وكبار الممثلين فى مصر.. استعار من خلال مشاهدته لأفلامهم بصورة شبه يومية الكثير من أدوات الذكاء السياسى وفن المونتاج وقطع الحكاية ووصلها وتنويع طريقة الحكى والاهتمام البالغ باللغة وسلامتها وإيقاعها.. وتنمية موهبة الحدس وقراءة الوجوه.. فكان يجتهد فى التعامل مع رؤساء أمريكا لأنها كانت فترة زخم فى العلاقات المشتركة بعد حرب أكتوبر وحتى وفاته عام 1981، فكارتر بالنسبة له رجل متدين يشبهه، ونيكسون سياسى محنك من أكبر السياسيين فى أمريكا وهو واضع استراتيجيات وهذا هو دور رئيس الدولة من وجهة نظره، وكان التفاهم معه يسيرا لهذا الأمر.. أما فورد فهو فلاح مثله على حد تعبيره لديه شيء من البساطة والتقائية.. ولم يغفل عن قناع كيسنجر الحقيقى بالرغم من أنه كان يطلق عليه (صديقى هنري) فقد كان يجتهد فى استجلاء الجانب الأكثر إيجابية فى التعامل مع هؤلاء الزعماء.. معتزا بأنه مناور سياسى من الطراز الرفيع طويل البال محتفظ برباطة جأشه فى المفاوضات مع بيجين وساسة إسرائيل فى تعنتهم وتشككهم. أنيس منصور من خلال مقالاته الأسبوعية فى مجلة أكتوبر كان يكتب من وحى الأحداث ووجهة نظر الرئيس العامة ويترك له الشكل وبقية المضمون، كانت علاقة ودودة شبه رسمية.. تكليفات لا تخلو من المسافات بين الرجلين.. ولم يكن أنيس منصور الصحفى الأوحد ولكن السادات كان يميل للتنويع فى عرض وجهات نظر الدولة.. وفى أحد المقالات يحدثنا منصور كيف كان السادات معجبا للغاية بمجموعة شهيرة من الدراسات الأمريكية التاريخية – مازالت قائمة – تطرح مجموعة من التساؤلات على أشهر المؤرخين الكبار، وتجمع بين الحقيقة والخيال، على سبيل المثال: ماذا لو انتصر نابليون فى روسيا؟ أو أن تشرشل توفى فى ثلاثينيات القرن الماضى؟ ماذا لو فشلت الثورة البلشفية؟ وكان السادات قد اقترح عام 1972 على ياسر عرفات إعلان حكومة فى المنفى وأخبره أننا سنعترف بها فورا وستتوالى الاعترافات بها تباعا. وعلمنا من المقال أن السادات تمنى لو كان يرأس منظمة التحرير الفلسطينية أو يملك حق تقرير المصير للفلسطينيين فإنه كان سيقوم على الفور بحل القضية الفلسطينية! كتب أنيس منصور عن كامب ديفيد وتعثر مباحثات السلام ولكن السادات الذى كان عاشقا للسينما.. لم يكن غائبا عن نظره رواية (كوفاديس دومينيه) لأديب نوبل البولندى سينكفتش.. وفيها يفر القديس بطرس هاربا من اضطهاد الرومان.. وحين رأى صورة السيد المسيح سأله «كوفاديس دومينيه» إلى «أين تذهب أيها السيد» باللاتينية.. فأجابه المسيح: إلى روما.. هنا توقف القديس بطرس وغير وجهته وعاد إلى روما لكى يستكمل دوره فى المواجهة والتصدى لاضطهاد الرومان للمسيحيين.. فكان لابد من المواجهة لتجنب «تيه المفاوضات وإقناع الرأى العام فى مصر بجدوى السلام» فالمواجهة كانت من أبرز صفاته.. والعناد والإصرار كان سمة من سماته.. أخبرتنى السيدة جيهان السادات فى حوارى معها أن عناده معهم على مستوى الأسرة كان يصل إلى الدرجة التى قد يضطرون معها إلى الحديث معه بعكس ما يريدون لكى يوافق على طلبهم.. لكنه كان الحرص على تحقيق الأصوب والأمثل لأسرته الصغيرة والتفكير فى البدائل والحلول وحل الأزمات بأقصى ما يستطيع من طاقة لبلده وشعبه. لو عاش السادات مائة عام لأسعده سماع آراء الناس فى هذا السؤال: ماذا لو لم يظهر السادات ولم نخض حرب أكتوبر ولم نوقع معاهدة السلام!