بعد فترات قصيرة من الريادة البرتغالية، فالإسبانية والهولندية (المركنتيلية) لحركة التجارة والنظام الرأسمالى مطلع العصر الحديث، لعبت بريطانيا دور الحامل التاريخى الأكثر استمرارا وحذقا للنزعة العالمية، خصوصا منذ قدم آدم سميث أفكاره عن التجارة الحرة والسوق المفتوح، والتى تم تجسيدها على خير مثال فى العصر الفيكتورى، الذى شهد هيمنة بريطانيا على البحار، وقيادة النظام الدولى حتى نهاية الحرب العالمية الأولى على أرضية الثورة الصناعية. أما الولاياتالمتحدة فقد لعبت دور المحفز لأيديولوجية العولمة التى تنامت فى العقود الثلاثة الماضية، الممتدة بين القرن العشرين والحادى والعشرين، وتحدثت عن عالم واحد مفتوح للتجارة والاستثمار وحركة رأس المال والبشر، مع انسياب الفضاء المعلوماتى متحررا من كل القيود عبر وسائط التواصل المتعددة. اليوم يبدو البلدان فى وضع من يتنكر لعالم أسهم فى صنعه، دافعا إياه نحو نوع من المحافظة والانكفاء. تتنكر بريطانيا للنزعة العالمية عبر اتفاقية البريكست التى تخرجها من حضن القارة العجوز إلى حيث تواجه تحدياتها وتسعى إلى السيطرة على مصيرها بتفرد لم تعد تملك مقوماته فى الحقيقة، فلم يكن تصويت البريطانيين ضد البقاء فى الاتحاد الأوروبى إلا انعكاسا لمزيج من الخوف العميق والعناد الهادئ لسياسات العولمة، خصوصا زحف المهاجرين وما انطوى عليه من مخاطر اختراق الإرهاب لأبرز قلاع الديمقراطية الغربية. أما أمريكا فتنكرت لخطاب العولمة وتورطت فى سياسات تنزع إلى الأحادية والاستعلائية والغوغائية ناهيك عن النزعة الانسحابية من جل الاتفاقيات والمعاهدات الدولية على نحو أثر بالسلب على دور الدبلوماسية متعددة الأطراف، وقد جرى ذلك كله بفعل تصويت لرجل الأمريكيين لترامب مدفوعين كذلك بالخوف المتصاعد من الإرهاب والهجرة، ناهيك عن إحباطهم من الآلية الجهنمية لعولمة الإنتاج والمتمثلة فى نقل جل الصناعات الثقيلة إلى الخارج، خصوصا إلى منطقة آسيا بحثا عن العمالة الرخيصة، ما أدى إلى زيادة البطالة لدى الطبقة العاملة البيضاء، التى أعادت اكتشاف نفسها وسعت إلى تأكيد حضورها على نحو نفعى بالتصويت لرجل كترامب. وعلى الرغم من أن القارة الأوروبية قد شهدت مرارا حركة بندولية بين اليمين واليسار، تكاد تأخذ صفة الدورية لعل أبرزها تمثل فى الثاتشرية الريجانية مطلع ثمانينيات القرن الماضى، فإن مظاهر عديدة تشى بأن الموجة اليمينية هذه المرة أكثر اتساعا وعمقا عما سبقها من موجات، إذ لم يعد الأمر مقتصرا على بلد أو اثنين أو ينحصر فى مجال الاقتصاد وحده، بل يكاد يصير عاما، يمتد من إيطاليا إلى هولندا وألمانيا، حيث اضطرت السيدة ميركل، وسط صعوبات متزايدة فى العام المنصرم، إلى تقديم تنازلات عدة لحفظ توازنها فى مواجهة الموجة العاتية قبل أن تضطرها إلى الخروج من المشهد تماما، بقوة دفع تناقضات العولمة المتفاقمة إلى درجة صارت تمثل قيدا على مسيرتها. أما فرنسا، الشريك القوى لألمانيا فى قيادة الاتحاد، فتبدو مشكلتها أكثر عمقا، فالرئيس الشاب الذى كان قبل عام ونصف العام حلا لتكلس الطبقة السياسية فى فرنسا، من اليمين واليمين المتطرف على اليسار واليسار المتطرف، صار اليوم هو المشكلة التى تفجرت فى مواجهتها انتفاضة السترات الصفراء، والتى تبدو فى كثير من ملامحها متأثرة بانتفاضات الربيع العربى، مع فارق واحد مؤكد سوف يفضى غالبا إلى تباين المآلات النهائية وهى طبيعة النظام السياسى الأكثر انفتاحا ودمقرطة ومن ثم مرونة هناك، وعلى العكس الأكثر انغلاقا واستبدادا ومن ثم انسدادا هنا. غير أن استمرار الرئيس ماكرون، بفرض حدوثه، لن يعنى مرور العاصفة ولا سلامة التوجهات العامة، فما وقع من تحد لسلطته ربما يكون يجرح سياساته، ويثير العواصف فى وجه حزبه، والمؤكد أنه سوف يضطره إلى مراجعات عميقة فى سياساته الاقتصادية التى حابت اليمين باعترافه، والعودة إلى سياسات عدالة ورعاية اجتماعية تقلل من هجوم النيوليبرالية وتحاصر ما بقى من صدقية الوعود الكبرى التى كان قد أطلقها خطاب العولمة. ثمة مفارقة فى هذا السياق، إذ طالما تمحور تيار مناهضة العولمة حول اليسار فى البلاد الأكثر تقدما، وحول التيارات القومية فى بلدان الجنوب الأقل تقدما، حيث الحرص على دور تدخلى للدولة فى الاقتصاد، كانت العولمة قد أطاحت به. أما اليمين فكان دوما أقرب إلى حرية السوق، وتحرير التجارة، ودور محدود للدولة (الحارسة) فى الاقتصاد، وجميعها تتواءم مع متطلبات العولمة. أما تفسير تلك المفارقة فربما يكمن فى تلك الفجوة الاستقطابية التى فجرتها العولمة ودفعتها النيوليبرالية إلى النمو بحسب متوالية هندسية بين الأثرياء والفقراء إلى حد يصعب رتقه، فلم يعد فقط بين دول غنية (مركزية) وأخرى فقيرة (طرفية) بل أيضا داخل كل المجتمعات بين طبقات غنية تزداد غنى، وأخرى فقيرة تزداد فقرا، حتى إن التفاوت شق طريقه إلى قلب الطبقة الوسطى نفسها داخل المجتمع الواحد بين الفئات الأكثر اندماجا فى الثورة التكنولوجية، القادرة بمهاراتها الفائقة على مجابهة تحدى هجرة رأس المال الصناعى إلى الخارج، وبين الفئات الأكثر ارتباطا بالفضاء الصناعى التقليدى، الذى كان يوظف المهارات العادية فى أعماله والتى تعين عليها إما القبول بدخول أقل أحيانا وإما تسريح من عملها فى أحيان أخرى خصوصا مع نمو معدلات الأتمتة للكثير من التعاملات والخدمات. إجمالا، وعلى رغم تفاوت طفيف يتعلق بالسياق الثقافى والظرف المحلى للتصدعات المتنامية سواء فى بنية الاتحاد الاوروبى، أو العولمة، يمكن الادعاء بأنها جميعها تنبت فى أرض الظلم الاجتماعى والتفاوت الطبقى الحاد المفضى إلى تسارع وتيرة الإفقار والتهميش، وهو طريق يضرب فى الصميم جوهر مشروع الاستنارة ونزعة التقدم المتفائلة الكامنة فى صميم تكوينه. ولأن ذلك المشروع وتلك النزعة بمنزلة روحانية الزمن الحديث، فالمؤكد لدينا استحالة هزيمتهما أو اندحار النزعة العالمية التى ينطويان عليها، كبنية تحتية تعكس مرحلة متقدمة فى حركة التاريخ، وإن لم يعفنا ذلك التفاؤل من المهمة التاريخية الكبرى المتمثلة فى المراجعة الضرورية للعولمة كبنية فوقية اقتحامية، وللسياسات النيوليبرالية، على نحو يسهم فى ترشيد حركة السير البشرى نحو مجتمعات أكثر عدالة وإنسانية. [email protected] لمزيد من مقالات ◀ صلاح سالم