يبدو أن عالمنا مقبل على فترة من الصراع بين تيارين متناقضين: الأول يجسد إستراتيجية العولمة التى ألفناها عبر العقدين الماضيين، وتحدثت عن عالم واحد مفتوح للتجارة والاستثمار وحركة رأس المال والبشر، مع انسياب الفضاء المعلوماتى متحررا من كل القيود عبر وسائط التواصل المتعددة، وبعضها وسائط اجتماعية نُظر إليها فى العقد الأخير، ولدورها فى عاصفة الربيع العربى، على أنها وسائط تغيير للعالم. والثاني يعكس إستراتيجية العزلة، التى تبدو متصاعدة، ارتباطا بالتيارات اليمينية المتصاعدة فى أوروبا والولاياتالمتحدة، على النحو الذى وشى به اتفاق البركزيت (خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى) وانتخاب السيد دونالد ترامب، حيث تتبدى نزعة نكوصية عن أيديولوجيا العولمة التى كانت الولاياتالمتحدة فى القلب منها، مثلما كانت بريطانيا بمنزلة الجذر الملهم لها، منذ آدم سميث صاحب الدعوة إلى مبادئ التجارة الحرة والسوق المفتوح. وعلى الرغم من أن القارة الأوروبية طالما شهدت حركة بندولية لم تتوقف بين اليمين واليسار، تكاد تأخذ صفة الدورية، فإن مظاهر عديدة تشى بأن موجة الصعود اليمينى هذه المرة أكثر اتساعا وعمقا عما سبقها من موجات كان أبرزها التاتشرية الريجانية مطلع الثمانينيات من القرن الماضى، إذ لم يعد الأمر يقتصر على بلد أو اثنين أو ينحصر فى مجال الاقتصاد وحده، بل يكاد يصير عاما وشاملا، ينعكس فى أشكال جد مختلفة، ما بين الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبى، إلى هيمنة اليمين الفرنسي التقليدى على التيار الديجولى ممثلا فى فرانسيس فيون، مع صعود اليمين العنصرى ممثلا فى جان مارى لوبن، مرورا بالنمسا وهولندا وإيطاليا وألمانيا حيث حركة تصعد حركة «بيجيدا». تتجذر ديناميات هذه الموجة فى تناقضات العولمة التى استفحلت إلى درجة باتت قيدا على مسيرة نموها، فالمعترضون البريطانيون على الاتحاد الأوروبى لديهم شعور عميق بالخوف من زحف المهاجرين وما انطوى عليه من مخاطر اختراق الإرهاب بعض أبرز عواصم الديمقراطية الغربية؛ ولأن مشاعر الخوف غالبا ما تكون أعلى عند الأجيال الأكبر سنا والأقل اندماجا فى الثقافة الكونية فقد اتخذت النزعة المحافظة الرافضة للاتحاد الأوروبى فى بريطانيا شكلا جيليا، حيث صوت أغلبية الشباب لصالح البقاء، فيما صوت الكبار لصالح الخروج. أما المصوتون لمصلحة ترامب، ففضلا عن مخاوف عموم الأمريكيين التقليدية إزاء الإرهاب والهجرة، والتى غازلها ترامب بسوقية وعنصرية، هناك إحباطاتهم الخاصة من الآلية الجهنمية المتمثلة فى تجزئة عمليات الإنتاج لأغلب السلع، ونقل جل الصناعات الثقيلة إلى الخارج، خصوصا إلى منطقة آسيا بحثا عن العمالة الرخيصة، ما أدى إلى زيادة البطالة لدى الطبقة العاملة البيضاء، التى أعادت اكتشاف نفسها سياسيا خارج القواعد التقليدية للحزب الجمهورى. ثمة مفارقة فى هذا السياق، إذ طالما تمحور تيار مناهضة العولمة حول اليسار فى البلاد الأكثر تقدما، وحول التيارات القومية فى بلدان الجنوب الأقل تقدما، حيث الحرص على دور تدخلى للدولة فى الاقتصاد، كانت العولمة قد أطاحت به. أما اليمين فكان دوما أقرب إلى حرية السوق، وتحرير التجارة، ودور محدود للدولة (الحارسة) فى الاقتصاد، وجميعها تتواءم مع متطلبات العولمة. تفسير ذلك أن الفجوة بين الثراء والفقر قد اتسعت على نحو يصعب رتقه، فلم يعد فقط بين دول غنية (مركزية) وأخرى فقيرة (طرفية) بل وأيضا داخل كل المجتمعات بين طبقات غنية تزداد غنى، وأخرى فقيرة تزدادا فقرا. بل إن التفاوت قد شق طريقه إلى قلب الطبقة الوسطى نفسها داخل المجتمع الواحد بين الفئات الأكثر اندماجا فى الفضاء المعولم، والثورة التكنولوجية الثالثة، والقادرة بمهاراتها الفائقة على تجاوز تحدى هجرة رأس المال الصناعى إلى الخارج، ونمو معدلات الأتمتة (الاستخدام المتزايد للتكنولوجيا بديلا عن العامل البشرى فى أداء العديد من الخدمات التى لا تحتاج إلى مهارات خاصة). وبين الفئات الأكثر ارتباطا بالفضاء الصناعى التقليدى، حيث الصناعات الثقيلة التى ارتبطت بالثورة الصناعية الثانية لا تزال سائدة، حيث تستمر المهارات العادية فى أعمالها ولكن مع دخول أقل أحيانا أو تسريح بعضها أحيانا أخرى عندما يجرى تصدير تلك الصناعات إلى دول أقل تقدما، وهو ملمح ربما يفسر لنا نمط تصويت الولايات المتأرجحة فى الانتخابات الأمريكية الأخيرة، خصوصا ميتشيجن وبنسلفانيا وفلوريدا وويسكونسن، والتى صوتت لترامب، آملة فى أن يستعيد للمتبطلين فيها بعضا من الصناعات التى غادرتها إلى الصين خصوصا، وهو الأمل الذى كشف ترامب عن تجاوبه معه حينما أعلن أخيرا أن أول قراراته عقب تسلم مقعده فى 20 يناير المقبل سيكون الانسحاب من اتفاقية التعاون الاقتصادى عبر الباسفيكى والتى تضم 12 بلدا أغلبها آسيوي، وهو الأمر الذى أثار مخاوف تلك الدول وعلى رأسها اليابان التى أعلنت أن تلك الاتفاقية لا تساوى شيئا دون الولاياتالمتحدة. كما يفسر لنا فى المقابل عمق المعارضة التى أبدتها كاليفورنيا، عاصمة الفن والسياحة ووادى السليكون، مهد الثورة التكنولوجية وأيديولوجيا العولمة، رمز القوة الناعمة الأمريكية، لانتخاب الرجل إلى حد انطلاق دعاوى تطالب بانفصال الولاية الأمريكية الأكبر، وهو أمر لن يحدث يقينا وإن كان له مغزاه الواضح فى الكشف عن قوة التيارات التقدمية، النازعة إلى الاندماج العالمى، الرافضة لاستراتيجيات الانعزال القومى ما يؤكد صعوبة هزيمة العولمة كبنية شاملة تعكس مرحلة متقدمة فى حركة التاريخ، وإن أمكن مراجعتها كأيديولوجية هيمنة مفرطة فى لعبة الأمم. [email protected] لمزيد من مقالات صلاح سالم;