قراءة التصويت البريطانى على الخروج من الإتحاد الأوروبى بإعتباره حدثا يمس فقط مصالح مجموعة إقليمية مؤلفة من 27 دولة لا يساعد فى فهم متغيرات عالمية تصاعدت حتى وصلت الذروة فى قارة هى محط أنظار المهاجرين والنازحين من حروب الشرق الأوسط وبؤرة القلق الأوسع اليوم بين مجموعة الدول المتقدمة بعد أن إستهدفها المتطرفون من خارجها وصاحبة تجربة متعثرة فى الإندماج بين الثقافات وأخرى خاصة بإقامة "دولة الرفاهية" التى ضربها الركود الإقتصادى العالمى عدة مرات ولم تعد أوروبا الموحدة قادرة على استيعاب كل تلك التناقضات بين أغنياءها وفقراءها. فى الماضي، كان التوتر بين الدول الأوروبية الكبرى يستتبعه موجات متتالية من الخروج فى حملات استعمارية بحثا عن مناطق نفوذ، اليوم التوتر بين الكبار يخلف أزمات عميقة فى حدود القارة ويرسل بإشارات متباينة للخارج عن إتحاد يترنح وشعوب لم يعد تجمعها الأفكار نفسها التى توحدت من أجلها. قال زعيم حزب الإستقلال البريطانى بعد إعلان النتيجة أنه "انتصار فى وجه الشركات والبنوك والمصالح الكبيرة" وصوت كبار السن ومتوسطى العمر ضد البقاء تحت قيادة بروكسل، بينما كانت رغبة شرائح أكثر شبابا، تميل إلى الإنفتاح على العالم، منح بريطانيا فرصة أخرى فربما تنصلح الأحوال فى الكيان الموحد. ماقاله رئيس حزب الإستقلال يتلاقى مع مخاوف الطبقات المتوسطة فى بريطانيا وأوروبا من ضياع مكاسب دولة الرفاهية بسبب إرهاق موازنات الدول الغنية فى الإتحاد الأوروبيين بمدفوعات مالية تذهب إلى الدول المتعثرة. فشل كل من المحافظين والعمال فى قراءة المشهد خارج لندن من حيث سريان حالة غضب بين الطبقات العمالية والفقيرة بسب إهمالهم لسنوات طويلة، فكانت النتيجة أن الحزبين فشلا فى الحشد لمصلحة البقاء مع أوروبا ويمهدان الطريق للتيارات اليمينية المحافظة واليسار الثورى لمكاسب سياسية فى بريطانيا (وأوروبا الغربية عموماً). صوت لمصلحة البقاء غالبية من سكان لندن (العاصمة المالية الأشهر فى أوروبا بما تمثله من مصالح متنوعة) وغالبية مواطنى اسكتلندا وأيرلندا الشمالية وهما يرميان لعقود لتخفيف قبضة التاج البريطانى عليهما ووسيلتهما فى تحقيق الهدف هو الإتجاه أكثر إلى أوروبا. الأزمة فى النسب المتقاربة فى التصويت التى تعنى أن هناك إنقساما مجتمعيا ليس سهلا وسيؤدى إلى تصدعات كبيرة فى النظام السياسى البريطانى فى الفترة المقبلة ولن يكون نهاية المطاف ظهور قيادة محافظة جديدة فى أكتوبر المقبل لقيادة المفاوضات مع الإتحاد الأوروبى لأن المسألة أعمق من الخروج وأكبر من قرار على المستوى الوطني. فى السنوات الخمسة عشر الأخيرة شهد العالم تقلبات عميقة.. من مفهوم التنازل عن "السيادة الوطنية" لمصلحة قوى العولمة والحدود المفتوحة إلى العودة مجددا إلى حماية الحدود الوطنية وصعود قوى اليمين القومى فى بريطانيا ودول أخرى خاصة بعد موجة الإرهاب التى أعقبت 11 سبتمبر وظهور إختلالات هيكلية فى التجمع الإقليمى الأوروبي. اليوم، نشهد ردة عكسية فالدولة القومية تستعيد قواها والمنظمات الإقليمية مثل الإتحاد الأوروبى تتراجع وعصر تحصين الحدود الوطنية بدأ مع موجة النزوح التاريخى للأجئين السوريين وأخرين من الشرق الأوسط ولن يتوقف إتساع الشروخ فى الإتحاد الأوروبى طالما لا يوجد حل لإختراق الإرهابيين للحدود ولا يمكن السيطرة على موجات الهجرة. غالبا، سيأتى رئيس حكومة "غير منتخب" مباشرة من الشعب، بوريس جونسون، وسيعمق الإنقسام الداخلى بين المؤيد والمعارض للإستفتاء إلا أن المعسكر المنتصر ربما سيكون مقدمة لتغيرات أعمق فى أوروبا، فلو نظرنا إلى المؤيدين للخروج سنجد زعماء اليمين المحافظ فى هولندا والنمسا وفرنسا، وإلى جانبهم دونالد ترامب مرشح الحزب الجمهورى الأمريكى لإنتخابات الرئاسة. اليمين العالمى يشعر بنشوة الإنتصار بعد الإستفتاء بما يمهد لموجات أكثر عنفوانا فى الدول التى لا يروق لقطاعات فيها التسامح مع المهاجرين أو استيعاب العمالة الأجنبية أو التنازل عن مظاهر السيادة الوطنية. المشكلة الأعمق أن القوى السياسية الرئيسية قد خسرت المعركة فى مواجهة "حملة الخروج" التى وجدت دعما فى أوساط الطبقات الفقيرة والمتوسطة، بما يمهد لظهور حركات سياسية أكثر إتجاها لليمين فى أوروبا تبنى على الإنتصار فى بريطانيا. وقد كان خطاب جيرمى كوربين زعيم حزب العمال أمس الأول تعبيرا عن عمق الأزمة داخل البلاد فى جانب وبين بريطانيا وأوروبا فى جانب أخر خاصة ما قاله من أن السياسات "الإنقسامية" تسعى دائما إلى توجيه اللوم إلى المهاجرين وليس إلى الحكومات، وما أشار إليه من تنسيق حزب العمل مع أحزاب اليسار الأوروبى لحماية معايير حقوق الإنسان وحقوق العمال مقترحا تعديلات لعقد العمل فى بريطانيا تسمح بحماية العمالة الوافدة من شرق أوروبا ومناطق أخرى حتى لا تقع تلك العمالة تحت شروط جديدة مجحفة تهدد السلام الإجتماعي. خروج بريطانيا من الإتحاد الأوروبى واحدة من أكثر العمليات تعقيدا فى تاريخ العلاقات داخل التجمعات الإقليمية وربما تضع نهاية غير سعيدة للكيان الأوروبى فى المدى الطويل ولكنها حلقة من حلقات عالم يتشكل كل يوم على قيم ومعايير جديدة مثلما حدث فى قرون سابقة.. كل حدث بهذا الحجم ليس نهاية المطاف فى حد ذاته، ولكنه بداية لتغيير جديد أعمق يؤثر على شكل النظام الدولي! [email protected] لمزيد من مقالات عزت ابراهيم