"انجلترا لن تعود أبدا كما كانت. لكنني إنجليزية وأفضل أن أظل انجليزية لأنني لا أريد أن أكون أوروبية"، تقول سيدة بريطانية مسنة بكثير من الثقة والتعاسة في آن واحد. فهى تحاول باستماته الإبقاء على ملامح البلد الذي تحن إليه. لكنه يختفي بسرعة من أمام عينيها. لكنها في الوقت نفسه تدرك صعوبة وقف التغييرات وإعادة عقارب الساعة للوراء. كما تدرك أن النوستالجيا التي تشعر بها للماضي، ومعها شرائح كبيرة من البريطانيين خاصة كبار السن، تعني أن تغادر بريطانيا "أمان" الاتحاد الأوروبي برغم كل مشكلاته، وتقفز في الظلام نحو مصير غير معلوم أو مضمون. لكن الكثير من البريطانيين يريدون عودة "انجلترا القديمة" بغض النظر عن المخاطر، خاصة في المدن الصناعية القديمة المترهلة وسط بريطانيا والريف البريطاني والمدن الساحلية بمرافئها التجارية الخاوية التي فقدت بريقها مع الزمن وتحمل المهاجرين مسئولية كل المشاكل التي تمر بها بريطانيا. لعقود طويلة كانت قضية الهجرة من المحرمات في بريطانيا لأنها مرتبطة بالعنصرية واليمين المتطرف. لكن في السنوات القليلة الماضية أنتقلت مناقشة الهجرة من الأحزاب اليمينية المتطرفة إلي أحزاب العمال والمحافظين والخضر والأحرار الديمقراطيين على حد السواء. والسبب الأساسي وراء هذا أن الهجرة لم تعد تتعلق حصرا بالمهاجرين من المستعمرات البريطانية السابقة في أسيا وإفريقيا والكاريبي، بل بمهاجرين بيض أوروبيين مسيحيين، هم مواطنو دول أوروبا الشرقية الذين هاجروا إلي بريطانيا خلال العقدين الماضيين، ما نزع عن مناقشة قضية الهجرة تهمة العنصرية نوعا ما. فمنذ 2001 وحتى 2015 هاجر إلي بريطانيا ما بين 2.5 مليون إلي 3 ملايين شخص، نصفهم تقريبا من أوروبا الشرقية وتحديدا بولندا ورومانيا. في المقابل هاجر 1.3 مليون بريطاني إلى دول الاتحاد الأوروبي. واليوم في بريطانيا هناك مهاجر واحد من بين كل سبعة مواطنين، اى ما يقرب من 8 ملايين شخص. أما في لندن، فهناك مهاجر واحد بين كل ثلاثة مواطنين. أي أن نحو ثلث سكان العاصمة من المهاجرين، ينتمون إلي 50 مجموعة عرقية. و المناطق الأكثر تنوعا عرقيا في لندن هي مناطق الطرف الشرقي من أحياء لندن التاريخية مثل "تاور هاملت" و"نيوهام" و"أولدهام" و"لوتون" و"كامدون" و"ريدبريدج" و"هاكني" و"داجنهام" و"نوينجهام" و"إيزلينجتون". وعلى عكس الكثير من المدن البريطانية التي تتقارب فيها نسب المؤيدين والمعارضين للبقاء في الاتحاد الأوروبي، فإن غالبية سكان لندن داعمون للبقاء في الاتحاد. وفي جولة ل"الأهرام" في مناطق الحي الشرقي من لندن قبل الاستفتاء المصيري 23 يونيو الجاري، كان يمكن رصد عدد كبير من الشباب والشابات المؤيدين للبقاء يوقفون المارة لحثهم على التصويت وتوضيح مخاطر المغادرة، فيما انتشرت اللافتات على حوائط المباني عليها صور وستون تشرشل وعبارته الشهيرة أثناء الحرب العالمية الثانية "البريطانيون لا يهربون: صوت بالبقاء". وتقول إحدي الناشطات في حملة البقاء ل"الأهرام":"فكرة أن تخرج بريطانيا من الاتحاد الاوروبي تفزعني. بريطانيا التي أعرفها أوروبية وجزء من أوروبا. لا أعتقد أنني أستطيع تحمل فكرة الخروج وتقويض قدرتي على السفر والعمل والأقامة في أي بلد في الإتحاد. سنصبح أكثر دولة معزولة في أوروبا.". حماستها وعاطفتها توضح الفجوة الجيلية في مسألة الاستفتاء وميل الشباب للأبواب المفتوحة وحرية العمل والحركة والتنقل في أوروبا بدون قيود أو تأشيرات. وفيما كان الناشطون الشباب يوزعون اللافتات وهم يرتدون الألوان البيضاء والزرقاء، ألوان علم الوحدة الأوروبية، لم يكن هناك أي أثر لحملة المغادرة في المنطقة. وليس من الصعب فهم السبب. ففي محيط عدة أمتار قليلة يمكنك سماع عشرات اللغات في الشارع والتوقف لتناول الطعام في مطعم اثيوبي، أو بولندي، أو مجري، أو نيبالي، أو صيني، أو هندي، أو صومالي، او إيطالي أو تايلاندي. وسماع كل أنواع الموسيقي. هذه المنطقة عصية على معسكر المغادرة. فالطرف الشرقي، كان تاريخيا منطقة للمهاجرين وللطبقات العمالية والتجار الذين يعملون في الموانئ على نهر التايمز. وقد شهد الطرف الشرقي العديد من موجات الهجرة منذ نهاية القرن السابع عشر عندما هاجر أكثر من 20 ألفا من الفرنسيين البروتستانت إلى بريطانيا هربا من الأضطهاد الديني. ثم تبع ذلك موجات هجرة من الإيرلنديين والصينيين، ثم اليهود من الروس والبولنديين ما جعله بوابة لندن المائية ووعاء اختلاط واندماج. وبنهاية القرن التاسع عشر كان هناك أكثر من 42 ألف روسي وبولندي في حي "ستيبني" وحده في الطرف الشرقي. أما موجات الهجرة في العقود الماضية فكانت في غالبيتها من بنجلاديش وغرب افريقيا وأوروبا الشرقية. لكن الصورة ليست وردية للكل. فالتحولات في جغرافيا المدينة وتكوينها السكاني ولغتها وملابسها التقليدية وطعامها، جعل الكثيرين يشعرون بالغربة بسبب "غياب المألوف" الذين اعتادوا عليه وحلول شىء آخر مكانه. فبدلا من حانات البيرة الشهيرة في بريطانيا، أنتشرت المقاهي الأوروبية الطابع. وبدلا من محلات البطاطس والسمك المقلي أنتشرت محلات الكاري والأكل الصيني. وبدلا من القبعات البريطانية أنتشرت العمامات التي يرتديها المسلمون والسيخ. وبينما رفع البعض أعلام انجلترا على نوافذ منازلهم لتشجيع منتخبهم خلال البطولة الأوروبية الحالية، فإن هناك أيضا مئات الأعلام الإيطالية والفرنسية والبولندية والمجرية والإسبانية والرومانية التي تنتشر بفخر. وليس هناك منطقة في الطرف الشرقي من لندن تشعرك بأثر الهجرة أكثر من منطقة "نيوهام". فاليوم 17% فقط من سكان نيوهام من البريطانيين البيض. فالمنطقة تستقبل سنويا نحو 16 ألف مهاجر جديد، يغيرون ملامحها بسرعة كبيرة. وعلى عكس موجات الهجرة الأولى التي جاءت من الهند وبنجلاديش وباكستان وباقي دول الكومنولث التي ذابت في المجتمع وأندمجت فيه واستعملت تدريجيا نفس اللكنة المحلية "كوكني"، وشجعت نفس فريق الكرة "ويست هام يونايتد" وأستوعبت نفس الحس الساخر، لم تستطع الموجات اللاحقة الأندماج والأنخراط في العادات المحلية بنفس السهولة والسلاسة. ويقول أدوك، وهو مهاجر بولندي يعيش في الحي الشرقي ل"الأهرام":"أعترف أن الاندماج صعب. فأنت تخرج منذ الصباح للعمل وتعود ليلا. وبالتالي الأختلاط والأندماج عسير. أنا بولندي حتى النخاع برغم من أنني هنا منذ نحو 4 سنوات. لكن أبنائي سيكونون بريطانيين". صعوبة اندماج المهاجرين الجدد، مع البطالة وأرتفاع الأسعار وتقلص نسب النمو وسياسات التقشف الحكومية جعلت الكثير من البريطانيين البيض يصبون غضبهم كله على المهاجرين و"عدم انخراطهم في أسلوب الحياة البريطانية". وتقول روزلين، وهى سيدة مسنة من الحي الشرقي:"قبل أربعين عاما كنت أعرف كل جيراني وكل الأسر في الشارع، بأسمائهم وأسماء أولادهم. اليوم جيراني من الصومال، لا يتحدثون حتى الأنجليزية". لا يمكن تحميل المهاجرين وحدهم بالطبع مسئولية التحولات الجذرية في الحي الشرقي. فسياسات مارجريت تاتشر الأقتصادية خلال الثمانينيات والتسعينيات أدت إلي تدهور أوضاع الطبقة العمالية في بريطانيا وانتشار البطالة وسطهم، بسبب أنهيار الصناعات الأساسية التي كانوا يعملون بها ومن بينها صناعة الموانئ، والمنسوجات، والأطعمة. ومع موجات الهجرة وعدم اندماج المهاجرين الجدد، وجد السكان الأنجليز أنفسهم يتحولون تدريجيا لأقلية ما دفع الكثير منهم للهجرة لمدن مجاورة. وخلال عشر سنوات فقط، بين 2001 و2011 نزح من نيوهام 37% من سكانها البيض البريطانيين إلي مناطق أخرى مجاورة من بينها "إسكس". لكن الملاحظ أن التخوف من أثار الهجرة لا يقتصر فقط على البريطانيين البيض. ف60% من البريطانيين من أصول أسيوية يريدون أيضا تقييد الهجرة. وتقول بريطانية من أصول أسيوية تعمل في أحد أفرع سوبر ماركت "تيسكو" في جنوبلندن ل"الأهرام":"لا أعتقد أنه من العدل بالنسبة لنا بعدما حققنا أنفسنا في بريطانيا منذ جاء أباؤنا في الأربعينيات، وبعد ما عانيناه من عنصرية ومشاق، أن يأتي مهاجر من أوروبا الشرقية أو أي مكان أخر في العالم لينافسنا في عملنا ويجد نفسه لديه كل المزايا للأقامة والعمل وأخد اعانات ودعم وفوائد من الدولة لأن الأتحاد الأوروبي يقول هذا". وتقول أنها وأسرتها سيصوتون بالخروج من الأتحاد الأوروبي بسبب قضية الهجرة فقط، بالرغم من أنها تعترف أنها لا تعرف ما إذا كان للهجرة أثار إيجابية على الأقتصاد. وهذا يعكس ملمحا رئيسيا في بريطانيا اليوم. فالخوف من المهاجرين "قضية هوية" في المقام الأول، ومرتبطه بكثير من المبالغات والتخويف. ففي استطلاع أخير للرأي حول نسبة المهاجرين إلى بريطانيا أعتقدت أغلبية العينة التي تم استطلاع رأيها أن نسبة المهاجرين في بريطانيا نحو 25%، بينما النسبة الحقيقة هى 13%. والحقيقة ان كل استطلاعات الرأي تظهر ان البريطانيين لديهم تصورات مبالغ فيها حول نسبة المهاجرين. لقد بدأت قصة الهجرة الحديثة لبريطانيا مع تحطم جدار برلين عام 1989. فبعد سقوط الجدار كانت بريطانيا من أوائل الدول التي رحبت بإنضمام دول أوروبا الشرقية إلى الأتحاد الأوروبي بأمل إضعاف بروكسل. ويتذكر اللورد او دونيل مسؤول الاعلام في مكتب رئيس الوزراء الأسبق جون ميجور بين 1990 و1994 إن فكرة ميجور كانت "توسيع" الأتحاد وليس جعله أكثر "مركزية". ويتابع:"لكن الحقيقة انه لم يكن هناك نقاش مستفيض حول تأثيرات موجات الهجرة على بريطانيا". اما جون ميجور فيقول إن "التقديرات الحكومية كانت أن نحو 13 ألف مهاجر من أوروبا الشرقية سيأتون سنويا... هذه التقديرات كانت كارثية. فالأعداد التي أتت كانت في حدود 130 ألف سنويا... أنا أشعر بالندم لانه عندما تخطئ الحكومة بهذا القدر تضعف ثقة الناخبين بها". الحكومة العمالية التي خلفت ميجور كانت حريصة بدورها على توسيع الأتحاد الأوروبي. وتوجه رئيس الوزراء الأسبق توني بلير إلى بولندا للدعوة بإسراع وتيرة ضم دول أوروبا الشرقية. وفي 2004 حصل بلير على ما يريده وأنضمت 8 دول من أوروبا الشرقية إلي الأتحاد الأوروبي ومن بينها بولندا وليتوانيا واوكرانيا وسلوفانيا. وأتخذ بلير قرارا دراماتيكيا وهو دعوة مواطني الدول الأوربية حديثة الأنضمام للأتحاد للقدوم إلي بريطانيا والعمل بها منذ اليوم الأول لدخول تلك الدول الاتحاد، على عكس دول أخرى مثل فرنسا والمانيا وايطاليا التي فضلت انتظار سبع سنوات كفترة انتقالية قبل استقبال أي مهاجرين بشكل دائم. وأعتمد بلير على نصيحة أحد مستشاريه الأقتصاديين وهو جوناثان بورتز الذي كتب مع فريق من الموظفين المدنيين لبلير مذكرة عام 2000 تحت عنوان "الهجرة: تحليل أقتصادي وأجتماعي" يخلص فيها إلي ان الأقتصاد البريطاني يحتاج الى الهجرة لمواصلة النمو وأن له أثار إيجابية على الأقتصاد لانها تغطي النقص في اليد العاملة في قطاعات هامة مثل الصحة والتعليم والزراعة. لكن التقرير ركز على الجوانب الإيجابية ولم يعطى أهمية مماثلة للأثار السلبية المحتملة. فالهجرة أدت لزيادة النمو، وأفادت الشركات الكبرى والطبقات الوسطى والثرية التي استفادت من العمالة من اوروبا الشرقية ذات التكلفة الأقل في التشغيل. لكن الهجرة أضرت أيضا بالطبقة العاملة البريطانية لأنها أدت إلي أنخفاض مستوى الاجور والبطالة وزادت الضغط على الخدمات العامة. واليوم ليس هناك قضية هناك توافق حولها في بريطانيا مثل الحد من الهجرة. فنحو 77% من البريطانيين تريد تقليص الهجرة، بينهم 56% تريد تقليص الهجرة "بشكل كبير". وهى أعلي نسبة رفض للمهاجرين منذ طرح قضية الهجرة للنقاش العام في التسعينيات. وكلما أنخفض الدخل وأنخفض مستوى التعليم، زادت نسبة المعارضين للهجرة إلي بريطانيا. وإستجابة للمخاوف الشعبية المتزايدة من الهجرة وتأثيرها، أتخذت حكومة ديفيد كاميرون عدة قرارات للحد من الهجرة من بينها تقليص التأشيرات الممنوحة للطلبة الاجانب للدراسة في بريطانيا، ووقف نظام منح عقود عمل للعمالة الزراعية القادمة من دول على حواف الاتحاد الاوروبي، ومنع حصول المهاجرين على أي مساعدات من الدولة إلا بعد مرور 4 سنوات على قدومهم ومساهمتهم في الأقتصاد عبر العمل ودفع الضرائب، وقصر تصاريح العمل على من يتم تصنيفهم ب"عمالة ماهرة" بدخل سنوي 30 ألف جنيه استرليني والذين يجيدون اللغة الانجليزية وهو ما يعني عدم استقدام العمالة التي تدير عمليا كامل قطاع المطاعم والفنادق والزراعة في بريطانيا. هذه القرارات لم تغير مسار النقاش حول الهجرة خلال الأستفتاء المصيري المرتقب. فالنقاش ليس عمليا ولا موضوعيا ولا اقتصاديا بالضرورة، فهو في جانب منه تلاعب بالمشاعر القومية التي يظهرها البعض في عبارة مختصرة وكاشفة وهى "بريطانيا للبيض"، عبر عنها زعيم اليمين البريطاني نايجل فاراج بقوله:"حتى إذا أصبحنا أكثر فقرا بسبب تقليص الهجرة... فلا مانع لدي"