إذا كنت بريطانيا فلن يلومك أحد إذا هاجمتك في الأيام الأخيرة نوبات فزع وقلق دائم يشل قدرة قدميك على حملك. فالخطاب السياسي في بريطانيا، خاصة داخل حزب المحافظين بين المؤيدين والمعارضين لبقاء بريطانيا داخل الأتحاد الأوروبي، بات هستيريا وسط حملات تخويف غير مسبوقة على مستقبل بريطانيا "المظلم" سواء ظلت داخل الأتحاد الأوروبي أو خرجت منه. فخلال الأيام القليلة الماضية قال رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون "إذا غادرنا الأتحاد الأوروبي ستندلع حرب في القارة"، و"إذا غادرنا ستفرح داعش وزعيمها البغدادي وفلاديمير بوتين"، و"إذا غادرنا فإن فرص تعرض بريطانيا لهجمات ارهابية تتعاظم"، و"إذا غادرنا سنصبح فقراء"، و"إذا غادرنا ستضرب بريطانيا موجات من الجراد"، (قالها كاميرون مازحا من هستيريا حملات التخويف). لم يكن كاميرون المتهم الوحيد في "حملة التخويف" من المغادرة، فمحافظ بنك انجلترا مايك كارني قال "إذا غادرنا سنعود للركود الأقتصادي وسيتباطأ الأقتصاد". وقالت النائبة البارزة في "حزب العمال" هارييت هرمان "إذا غادرنا ستتراجع حقوق المرأة في بريطانيا". وقال الرئيس الأمريكي باراك اوباما "إذا غادرت بريطانيا الأتحاد الأوروبي فأنها ستقف في نهاية الطابور" فيما يتعلق بالأتفاقيات التجارية مع امريكا. بينما قالت كرستين لاجارد رئيسة صندوق النقد الدولي:"إذا غادرت بريطانيا فإن صندوق النقد سيقيم هذا بين سيئ جدا... وسيئ جدا جدا". وقال دونالد توسك رئيس المجلس الأوروبي إذا غادرت بريطانيا فإنها "الفوضي السياسية... والعودة إلى الأنانية الوطنية...والنزعات المعادية للديمقراطية والتي يمكن أن تقود التاريخ إلى أن يعيد نفسه" في تحذير من إندلاع حروب في أوروبا. الوجه الأخر من العملة لم يكن أقل سوداوية. فبوريس جونسون، أبرز وجوه حملة "المغادرة" قال إن الأتحاد الأوروبي "يسير على خطى هتلر وأنه يفتقد للديمقراطية ومصيره الفشل" وأن "المانيا أستولت على ايطاليا ودمرت اليونان". كما قال "إذا بقينا سنكون عرضة لهجمات إرهابية من داعش وخلاياه في أوروبا"، و"إذا بقينا سيغزونا المهاجرين ويأخذون عمل البريطانيين". أما نايجل فاراج زعيم حزب "أستقلال بريطانيا" (يوكيب) اليميني العادي للهجرة والداعم لخروج بريطانيا من الأتحاد الأوروبي، فقال:"إذا بقينا في الأتحاد الأوروبي ستندلع أعمال عنف في الشوارع. ولاننا لا نستطيع السيطرة على حدودنا، فإن الجهاديين الذين ترسلهم داعش إلى أوروبا، سيحاولون تغيير الأوضاع لدينا عبر العنف". فيما قال أيان دنكان سميث، أحد أبرز وجوه حزب المحافظين:"إذا بقينا في الأتحاد الأوروبي سيؤدي هذا إلى تقليص أجور البريطانيين". استخدام "التخويف" لدفع الناس للتصويت في أتجاه معين ليس ظاهرة جديدة. أنها استراتيجية جربت ونجحت على مدى التاريخ، وهى لا تقوم على حجج وأفكار منطقية وانما على خلق مشاعر سلبية وعدائية تتغلب على المنطق والعقل وتقود لإطلاق الأحكام العامة في قضايا معقدة ومتداخلة ومتشابكة مثل التطرف والأسلاموفوبيا والهجرة واللأجئين. لقد أستخدم التخويف في السياسة منذ اليونان القديمة. ففي الحرب بين أثينا الضعيفة وأسبرطة القوية، كانت دعاية حكام أثينا للسكان المحليين وللعدو الأسبرطي على الأبواب:"سندمركم... الألهة تقف معنا... يجب أن تخافونا". أنتهت الحرب طبعا بغزو أسبرطة لاثينا وتدمير المدينة ومعابدها. أساليب التخويف استخدمتها المانيا في الثلاثينيات والأربعينيات بترديد "الأعداء على أبواب المانيا والحل الوحيد هو الحرب الشاملة". حروب ألمانيا في أوروبا أدت لسقوط نحو 50 مليون قتيل خلال الحرب العالمية الثانية. وفي أمريكا في الأربعينيات والخمسينيات أستخدمت الحملة المكارثية التخويف من الأتحاد السوفيتي للقضاء على الحركات اليسارية والعمالية والنقابات وحركات الحقوق المدينة والحركات المنادية بالمساواة بين البيض والسود. وطبعا خلال عقود الحرب الباردة كان استخدام التخويف، من قبل المعسكرين الشرقي والغربي، عبر المبالغة في الخطر الذي يشكله الأخر على بقاء الطرف الثاني هو السياسة الرسمية. وبعد تفكك الأتحاد السوفيتي، بدأ التخويف من الإسلام. وحملات التخويف بعد 11 سبتمبر 2001 فتحت الباب للرقابة على الانترنت والتلفونات وأنتهاك الحريات والحقوق الشخصية وتقنين التعذيب في السجون الأمريكية والتمهيد لحرب غير قانونية على العراق بعد وضعها مع إيران وكوريا الشمالية في "محور الشر" و"الدول المارقة". واليوم تستخدم "الحرب على الأرهاب" كأداة تخويف وتمرير سياسات مثل مراقبة المدارس والمساجد وانتهاك الخصوصية الفردية باسم الامن. أستخدام التخويف لا يحتاج إلى كلام كثير، بل إلى صورة أساسية يعاد تكرارها حتى يصبح معناها ومغزاها موحدا في الأذهان. ففي بريطانيا يكفي وضع الصورة الشهيرة لمهاجرين ولأجئين يقذفون حرس الحدود الصربي بالحجارة وهم يحاولون اقتحام الأسلاك الشائكة كى يقفز إلى الذهن عبارة:"همج... يريدون الدخول عنوة ولا يحترمون قوانين أو قواعد". أو صورة الألمانيات وهن يهربن من موجات التحرش الجنسي بهن على يد المهاجرين في مدينة هامبروج ليلة رأس السنة ليتعزز الأنطباع "كلهم متحرشون". أو صورة مراهقين سود يسيرون في احدى الضواحي الأمريكية مرتدين السراويل الواسعة والهودي يغطي نصف الوجه ليقفز إلى الذهن "المجرم أت". أو صور مهاجرين من أوروبا الشرقية أو من المكسيك يعملون في "ماكدونالدز" أو "وول مارت" ليقفز إلى الذهن "أنهم يأخذون عملنا". فهناك طريقتين لحكم الناس كما يقول مكيافيلي. بالخوف أو الأمل. الأمل يتطلب ثمارا سياسية وأقتصادية. الخوف لا يتطلب شيئا وهو الغالب اليوم. فيكفي في بريطانيا وغيرها من الدول الأوروبية أن تلقي باللوم على الأرهاب واللأجئين والمهاجرين والتطرف الإسلامي في أزمات البطالة وتباطؤ الأقتصاد والتقشف في الميزانية وسوء أداء نظام الرعاية الصحية. كما يكفي أن تستحضر هتلر وداعش والمهاجرين واللاجئين ونابليون في النقاش حول بقاء أو خروج بريطانيا من الأتحاد الأوروبي كي تتجنب خوض نقاش موضوعي حول الإستفتاء المصيري. لعبة المخاوف لم يؤججها فقط أهمية الإستفتاء ونتائجه على مستقبل بريطانيا، بل ونتائجه أيضا على مستقبل اللأعبين الأساسيين فيه وهما ديفيد كاميرون وبوريس جونسون. فكاميرون الذي غامر بالدعوة للإستفتاء الشعبي تحت ضغط اليمين في حزب المحافظين، أخذ بريطانيا وأوروبا معها إلى مستقبل غامض بعدما حدد تاريخ الاستفتاء في 23 يونيو 2016 بدلا من 2017، خاصة في ظل الأزمات المتفاقمة التي تواجهها اوروبا حاليا وتراجع شعبية مشروع الوحدة الأوروبية. فالأستفتاء وخروج بريطانيا المحتمل قد يكون هو كل أرث كاميرون السياسي. فالخروج سيكون "عراق ديفيد كاميرون".هذا الأرث يخيفه ويدفعه وفريقه لحملة تخويف غير مسبوقة من عواقب الخروج. أما اللاعب الثاني في حرب الأستفتاء فهو جونسون الذي اختار عدم الترشح لولاية ثالثة على رأس بلدية لندن، ثم اختار "معسكر المغادرة" ومعاداة كاميرون والنافذين الكبار في حزب المحافظين الذين أختاروا "معسكر البقاء" من أجل ما يراه الكثيرون حسابات شخصية باردة من جونسون كي يحل محل كاميرون على رأس زعامة حزب المحافظين ورئاسة الوزراء إذا نجح رهانه وصوت البريطانيون على المغادرة وأضطر كاميرون للأستقالة. وعلى غرار كاميرون، فإن مستقبل جونسون السياسي قد ينتهي خلال الأسابيع الخمس المقبلة إذا صوتت بريطانيا بالبقاء، ليصبح كل أرثه السياسي "أنه المغفل الذي قامر بكل شئ وانتهي بخسارة كل شئ". هذا السيناريو دفع جونسون للجنوح في حملة التخويف من البقاء داخل الأتحاد الأوروبي، ما أفقده الدعم حتى داخل حزب المحافظين الذي ينتمي إليه. فاللورد بادي اشدون أحد القيادات التاريخية لحزب المحافظين وصف جونسون ب "أحد هؤلاء السياسيين محدودي القيمة الذين يتشبهون بتشرشل. يعد بالأنتصار... بينما هو حقيقة يضعف قوتنا ويحطم اقتصادنا"، قائلا إن جونسون "دمر فرصته في زعامة حزب المحافظين... وسأكون مندهشا جدا إذا ظل له مستقبل سياسي". ووسط غياب النقاش الموضوعي والهادئ حول مزايا وعيوب البقاء أو مغادرة بريطانيا الأتحاد الأوروبي، والدخول في مرحلة من الهستريا خاصة داخل حزب المحافظين، لا عجب أن يرفض "حزب العمال" مشاركة المحافظين المؤيدين للبقاء في جولات مشتركة لإقناع الناخبين التصويت بالبقاء. وكما قال جون ماكدونال، وزير الخزانة في حكومة الظل: "حملة الأستفتاء أظهرت أسوأ في ما ويستمنستر. أنه منظر قبيح فعلا لأنه يعتمد على التخويف كأداة للتأثير السياسي. هذا مقيت وعلامة ضعف".