قبعة ومظلة مطر وضعتا أمام منزل عمدة لندن بوريس جونسون قبيل إعلانه موقفه من البقاء أو مغادرة بريطانيا للإتحاد الأوروبي. لا يغادر بريطانى المنزل فى هذا الوقت من العام بدون مظلة وقبعة. الرسالة واضحة لعمدة لندن وهى "غادر". استجاب جونسون للرسالة وأعلن انضمامه إلي"حملة مغادرة" بريطانيا للإتحاد الأوروبى فى خطوة لم تكن متوقعة تماما وشكلت ضربة سياسية لرئيس الوزراء ديفيد كاميرون. وتقول مصادر مطلعة فى "دواننج ستريت" إن كاميرون كان واثقا من دعم جونسون لبقاء بريطانيا ضمن الاتحاد الأوروبى حتى أيام قليلة مضت، وأنه كان يعتقد أن "غزل" جونسون ل "حملة المغادرة" لم يكن إلا لحسابات متعلقة بالإنتخابات داخل حزب المحافظين لاختيار خلف لكاميرون مع انتهاء ولايته الثانية. إلا أن جونسون "قفز فى الظلام" كسياسي، وأخذ معه حزب المحافظين وبريطانيا كلها، وانضم لمعسكر لا. وأبلغ كاميرون بذلك فى رسالة نصية على الهاتف قبل 9 دقائق فقط من إعلانه ذلك رسميا أمام حشد ضخم من الصحفيين أصطفوا أمام منزله وكان عددهم أكبر بكثير من المعتاد مما دعا أحد المارة للسؤال:"هل مات أحد؟". لا يمكن التقليل من تأثير خطوة جونسون على الإستفتاء الشعبى المزمع فى 23 يونيو المقبل كى يحدد البريطانيون ما إذا كانوا يريدون البقاء أم مغادرة الاتحاد الأوروبي. ف "حملة المغادرة" لم يكن لها وجه سياسى له قبول عام. جونسون أعطاها الأن هذا الوجه وهذه ميزة كبيرة إذ يتذكر الذين عاصروا إستفتاء 1975 للبقاء أو الخروج من الاتحاد الأوروبى أن أحد مصادر ضعف حملة المغادرة أن قادتها كانوا أقصى اليمين أو اليسار وعلى الهامش. وهذا لا ينطبق على بوريس جونسون. فهو عمدة لندن، المركز المالى الأوروبى الأول والمدينة البريطانية التى ستتأثر أكثر من غيرها بالبقاء ضمن حدود المشروع الأوروبى أو مغادرته. كما أنه أقوى المرشحين لخلافة كاميرون على زعامة حزب المحافظين. وعندما يقول عمدة العاصمة والزعيم المحتمل لحزب المحافظين إن الإتفاق الذى أتى به كاميرون من بروكسل لا يغير من طبيعة العلاقات مع الاتحاد الأوروبى ولم يحقق إلا تغييرات شكلية محدودة فإن الكثيرين سينصتون إليه. ومنذ أمس الأول بات بوريس جونسون "بطلا" بالفعل و"رئيس الوزراء المقبل" للمتحمسين للخروج من الاتحاد الأوروبي. ومع ذلك فإن الحسابات المعقدة وراء قرار جونسون قد تكون نقطة ضعفه. وتتجاوز هذه الحسابات جدوى البقاء أو مغادرة الاتحاد الأوروبى لبريطانيا، إلى مستقبل جونسون السياسى داخل حزب المحافظين وعلى رأس رئاسة الوزراء لاحقا. فهو أحد أقوى المرشحين، لكن أمامه أيضا وزير الخزانة النافذ جورج أوزبورن ووزيرة الداخلية القوية تيريزا ماى وكلاهما دعم كاميرون وأيد حملة البقاء داخل الاتحاد الأوروبي ويقول جون رينتول الأستاذ الزائر فى جامعة "كينجز كولديج" البريطانية إن قرار جونسون المباغت يشير إلى أنه "لا يريد أى منصب فى الحكومة سوى منصب رئيس الوزراء". فإذا نجحت حملة مغادرة الاتحاد الأوروبي، سيكون هو المرشح الطبيعى لخلافة كاميرون على رأس الحزب وعلى رأس الحكومة. فخلال الأنتخابات العامة الأخيرة فى مايو الماضى أخبره مستشاروه أن الزعيم الجديد لحزب المحافظين سيتحدد بناء على موقفه من البقاء أو مغادرة الاتحاد الأوروبي. فغالبية أعضاء حزب المحافظين باتت ضد البقاء داخل الاتحاد. لكن حتى إذا أنتصر "معسكر نعم" وصوت غالبية البريطانيين للبقاء ضمن المشروع الأوروبي، فإن ملف العلاقة بين بريطانيا والاتحاد الأوروبى لن يغلق نهائيا، بل قد يشتعل أكثر وتتعمق الرغبة داخل "المحافظين" لإنتخاب زعيم يريد الخروج من أوروبا أو على الأقل إجراء مفاوضات جديدة وإستفتاء جديد. وبرغم مخاطر هذا السيناريو، إلا أن حسابات جونسون تضمنت أنه يمكن أن ينضم إلى حملة المغادرة بدون أن يضر هذا بمستقبله السياسى السياسي، حتى إذا صوت البريطانيون للبقاء فى الاتحاد الأوروبي. فالكثيرون يعتقدون أن جونسون لا يريد فعلا مغادرة الاتحاد، إنما تقوية "حملة لا" لطلب المزيد من التنازلات فى مفاوضات مستقبلية مع الاتحاد الأوروبي. وفى مقالته الأسبوعية أمس فى "ديلى تلجراف"،تحدث بوريس جونسون بعد إعلان إنضمامه لمعسكر لا عن "الحصول على صفقة أفضل" من أوروبا، وليس الخروج من الاتحاد الأوروبي. ويقول تيم شيبمان المعلق السياسى في"صنداى تايمز" إن دعم جونسون لمعسكر لا "ليس معناه أنه راغب فى الخروج من الاتحاد الأوروبي...جونسون اخبرنى أنه يريد قيادة المفاوضات مع الاتحاد الأوروبى وما زال راغبا فى ذلك". بإختصار رسالة مقالة جونسون هى:"إلى الملتقى وليس وداعا" للأتحاد الأوروبي. الأشهر الأربعة المقبلة ستكون ملتهبة فى بريطانيا، فقد فتح جونسون حرب خلافة كاميرون مبكرا جدا وعلى خلفية قضية هى أصلا مثيرة للانقسامات داخل حزب المحافظين وفى بريطانيا. وربما يصور بعض مستشارى جونسون قراره الأنضمام لحملة لا ب"ضربة معلم"، لكن الغالبية وسط القوى السياسية البريطانية انتقدته بشده ومن بينها حزب العمال والأحرار الديمقراطيين، والقومى الأسكتلندي، والشين فين الايرلندي. بل إن والده ستانلى جونسون العضو السابق فى حزب المحافظين قال إنه لا يشارك أبنه موقفه من الاتحاد الأوروبي، محذرا من أن خطوته قد "تدمر مستقبله السياسي". أما الصحف البريطانية فقد وصفت قرار جونسون ب"العاصفة السياسية" و"الخطوة الدراماتيكية" و"القنبلة المدوية" و"طعنة خنجر" و"جونسون يستخدم الضربة القاضية"، لكن لا ينبغى المبالغة فى تأثير إنضمام عمدة لندن لحملة الخروج من الاتحاد الأوروبي. ففى الإنتخابات العامة التى جرت فى مايو الماضى كانت لندنالمدينة الوحيدة التى عزز فيها "حزب العمال" المعارض عدد مقاعده فيها. بعبارة أخرى لن يحسم أى سياسى وحده مهما كانت جماهيريته نتيجة الأستفتاء المرتقب. ففى إستطلاع لمؤسسة "يو جوف" الحكومية لإستطلاعات الرأى العام، قال نحو 44% من الذين تم إستطلاع رأيهم إن رأى كاميرون هام بالنسبة لهم لتحديد موقفهم فى البقاء أو مغادرة الاتحاد الأوروبي، فيما قال 32% أن رأى بوريس جونسون هام لهم، و28% قالوا إن رأى وزيرة الداخلية تريزا ماى هام لهم، و28% قالوا إن رأى وزير الخزانة جورج اوزبورن هام لهم، و27% قالوا إن رأى زعيم حزب العمال جيرمى كوربن هام لهم. والملاحظ أن "معسكر نعم" لأوروبا يضم كاميرون وأوزبورن وماى وكوربن، والكثير من رجال الأعمال والبنوك، ونحو 50 شركة كبرى فى البورصة البريطانية، وغالبية الشعب الأسكتلندى (هناك ميل قوى للإستقلال عن بريطانيا إذا فاز معسكر لا) وغالبية سكان لندن، والشباب. فيما "معسكر لا" يضم جونسون و"عصابة الستة" وزراء فى حكومة كاميرون الذين انشقوا عليه، وزعيم حزب "استقلال بريطانيا" نايجل فاراج، وزعيم "حزب الأحترام" جورج جالواي، والمدن الصغيرة التى بها نسب مهاجرين كبيرة. وبأوزان التأثير السياسى فإن "معسكر نعم" أقوى كثيرا من "معسكر لا". كما أن هناك نحو 35% من الناخبين البريطانيين لم يحسموا رأيهم بعد. والطريقة التى سيحسم بها هؤلاء رأيهم ستحدد نتائج هذا الإستفتاء. فالكثيرون ما زالوا ينتظرون المزيد من التفاصيل حول مسألة سيادة القوانين البريطانية على قوانين الاتحاد الأوروبى فى حالة وجود تناقض فى التفسير. والكثيرون ينتظرون "خطة معسكر لا لما بعد الأنفصال". فخطاب "معسكر لا" يقوم كليا على تعديد نقائض البقاء داخل الاتحاد الأوروبى دون أن يوضح كيف سيتعايش الأقتصاد البريطانى مثلا مع قرار الخروج وهل تستطيع أن تظل جزءا من السوق الأوروبية المشتركة حتى إذا خرجت، وهذا ما دفع كاميرون للقول "إن معسكر الخروج لم يبذل أى جهد لوضع خطط أو تصورات حول كيف ستكون بريطانيا إذا قررت مغادرة الاتحاد الأوروبي". لم يحصل كاميرون على كل ما يريده من الاتحاد الأوروبى لكنه حصل على بعض ما يريده. فبريطانيالن تكون أبدا جزءا من دولة اوروبية كبرى، وستبقى بعيدة عن اتحاد سياسى اكثر تقاربا، ولن تكون أبدا جزءا من العملة الموحدة اليورو. كما انتزع كاميرون قيودا جديدة على نظام المساعدات الاجتماعية للمهاجرين من داخل الاتحاد الأوروبي، وهامشا من الحرية فى تطبيق القواعد المصرفية والسوقية. لكنه أهدر أيضا فرصة. فالإتفاق كما يقول زعيم العمال جيرمى كوربن "لا يعالج معظم المشاكل التى يعانى منها الشعب البريطاني... لأن كاميرون ركز على القضايا التى تهم الصقور داخل حزبه وعلى رأسها الهجرة والاستقلال المالي، ولم يركز على إصلاحات تتضمن خلق فرص عمل، وحماية الصناعات الوطنية البريطانية، والحد من العمالة منخفضة الأجور التى تأتى إلى بريطانيا". لكن كوربن وبرغم الإنتقادات للإتفاق قال إن حزبه سينضم لحزب المحافظين فى حملة دعم بقاء بريطانيا داخل حدود الاتحاد الأوروبي. وهو ما كان يتوقعه كاميرون من بوريس جونسون، زميله فى الدراسة والحزب. لكن جونسون منافس لكاميرون وعينه على رئاسة الوزراء وطموح جدا وانتهازى وسياسي... فلماذا المفاجأة؟