علق الكثير من الاعلاميين و الباحثين المصريين على المظاهرات الأخيرة التى شهدتها فرنسا. البعض وجد تشابها بينها و بين ما سمى الربيع العربى فى 2011، سواء ما يتعلق بالمطالب أو عمليات التخريب التى صاحبت المظاهرات. البعض الآخر وجد التفسير فى نظرية المؤامرة، وأن ما حدث فى فرنسا تم بتخطيط أمريكى بسبب طرح الرئيس ماكرون لفكرة الجيش الاوروبى كبديل لحلف شمال الأطلنطى الذى تقوده الولاياتالمتحدة، و بالتالى ماحدث هو مجرد قرصة أذن أمريكية لفرنسا. لا أعتقد أن التحليلات السابقة تقدم صورة عميقة لما حدث فى فرنسا، وأرى أن هناك عددا من الملاحظات الأخرى التى تستحق التوقف عنها، و تمثل دروسا عامة تتجاوز السياق الفرنسى، أهمها ما يلى: أولا: من الواضح أن المظاهرات و حركات الاحتجاج الكبرى التى شهدها العالم فى السنوات الأخيرة يقوم بها أناس عاديون لا يجمعهم إطار تنظيمى محدد مثل الاحزاب أو النقابات، كما أن هذه المظاهرات لا يوجد لها قيادة مركزية محددة أو معروفة تعطى الأوامر أو تعبر عن مطالبها، و بعضها يمثل حركات اجتماعية شعبية، تتسم بقدر من التلقائية فى الحركة، و تكبر مثل كرة الثلج التى تتدحرج و يصعب إيقافها. ثانيا: يلاحظ أن الانترنت وأدوات التواصل الاجتماعى خاصة الفيس بوك، أصبحت هى المنصة الرئيسية التى يتم فيها التعبير عن الاحتجاح، و الوسيلة التى يتم من خلالها التجميع و التنظيم للمظاهرات، فأحداث فرنسا بدأت بمقطع فيديو نشرته على الفيسبوك سيدة فرنسية تسمى جاكلين موراود، فى شكل رسالة للرئيس ماكرون تشكو فيها من ارتفاع أسعار الوقود ومشكلات أخرى يتعرض لها السائقون، و سرعان ما حصل هذا المقطع على 6.2 مليون مشاهدة وأكثر من 263 ألف شير، وانطلقت منه شرارة الأحداث، و تم تنظيم احتجات حركة السترات الصفراء عبر البلاد من خلال الفيس بوك. ثالثا: يلاحظ أن هناك مشكلة فى جغرافية التنمية فى العديد من الدول المتقدمة، و بالتأكيد فى الدول النامية، تتعلق بتركز مشروعات التنمية فى المدن أو الحضر، و تجاهل الريف، مما أدى الى تدهور الأحوال المعيشية لسكانه، و أصبحوا وقودا للتظاهرات، كما اتضح فى الاحداث الأخيرة بفرنسا، أو أصبحوا بؤرة للأصوات الاحتجاجية، كما يظهر فى القاعدة الانتخابية للرئيس الأمريكى ترامب، التى تتركز فى الريف. رابعا: هناك حالة سيولة سياسية كبيرة يشهدها العديد من دول العالم سواء المتقدمة أو النامية، تتمثل فى فقدان ثقة الجماهير فى الأحزاب السياسية التقليدية، و النخب و الساسة المحترفين، فالرئيس ماكرون جاء الى قصر الإليزيه على جناح حركة شعبية جديدة هى الجمهورية للأمام و استطاع من خلالها هزيمة منافسيه فى انتخابات الرئاسة و تحقيق الأغلبية فى البرلمان، و اليوم و بعد من أقل من عامين على هذه الانتصارات تفقد هذه الحركة شعبيتها، و يتحدث البعض عن أنه لو قررت حركة السترات الصفراء دخول انتخابات البرلمان الأوروبى و المقرر عقدها فى فرنسا فى مارس المقبل، فقد تحصل على أغلبية المقاعد. خامسا: تثير أحداث فرنسا قضية كبرى تتعلق بمسألة هل الحكم يكون للشارع أم لممثلى الشعب الذين جاء بهم صندوق الانتخابات. و يرتبط بذلك قضية أخرى وهى هل الحصول على أغلبية فى الانتخابات «عادة تزيد قليلا على 50%» يعطى تفويضا شعبيا لمن فاز بها يتيح له تنفيذ أجندته دون تغيير، و تهميش المعارضة و عدم الاستماع لها، و ممارسة ما يطلق عليه ديكتاتورية الأغلبية او الأغلبية المتوحشة. أحداث فرنسا الأخيرة كانت نوبة صحيان لغرور السلطة الذى انتاب الرئيس الفرنسى الشاب و محدود الخبرة السياسية خلال سنة حكمه الأولى، وبدا ماكرون أكثر تواضعا فى خطابه الذى وجهه للشعب الفرنسى مساء الاثنين الماضى، ورغم رفضه التساهل مع مرتكبى أعمال العنف والشغب، وقوله حين يفلت العنف من عقاله لا مكان للحرية، الا أنه أكد أيضا تفهمه غضب و محنة المحتجين، ويبدو أنه استمع للتحذير الذى قدمه له أحد حلفائه السياسيين بقوله لا يمكن للمرء أن يحكم ضد الناس. ختاما، نتمنى للرئيس ماكرون عبور الأزمة، فهو صديق لمصر، ونموذج للتيار الإصلاحى الوسطي، الذى يقف فى مواجهة التطرف والعنصرية. لمزيد من مقالات د. محمد كمال