فى نهاية مقالتى السابقة أخبرتكم أن عددا جديدا صدر من المجلة الأدبية الفرنسية الجديدة، وكان موضوع غلافه هو الرسول العربى عليه الصلاة والسلام كما يمكن للباحث المؤرخ أن يراه وأن يرسم صورته، وليس كما يرسمها الآن المتطرفون المتعصبون من المسلمين ومن غير المسلمين. ومن هنا كان العنوان الذى وضعته المجلة على غلافها هو «محمد الحقيقي». وتحت هذا العنوان نشرت مقالات الكتاب والمفكرين الذين شاركوا فى البحث وقدموا صورة عن الإسلام كما يرونه فى الحاضر وكما يستطيعون أن يروه فى الماضى عن طريق العودة إلى ينابيعه الأولي. فريق مكون من ثمانية باحثين أحدهم بلجيكى اعتنق الإسلام، وآخر مغربى هاجر إلى بلجيكا. كأن كلا منهما يكمل الآخر. وباحث تركى يعيش فى فرنسا، وثلاثة فرنسيين، وباحثان مصريان يعملان معا كأنهما واحد. هؤلاء الثمانية على اختلاف أصولهم وفروعهم يهمهم الإسلام وتجمع بينهم حضارته وإن اختلفت عقائدهم وهذا ما قصدته حين قلت إنهم يقدمون صورة الإسلام كما يرونه فى الحاضر، ولهذا يرجعون لأصوله يبحثون عن صورة محمد الحقيقية، فمحمد يشغل الجميع، ويملأ الحاضر والماضي، ولهذا تتعدد الصور ويختلف بعضها عن بعض، و يصبح السؤال مشروعا عن محمد الحقيقي، ويبحث السائل عن الجواب فى البيئة البدوية التى نشأ فيها النبي، وفى دوره الذى أداه فى الحياة نبيا وإنسانا وقائدا للمؤمنين برسالته، وفى ثقافته وعلاقته بثقافة عصره، وعلاقته بأصحاب الديانات الأخري. أما المجلة التى طرحت الموضوع وناقشته فهى من أهم المجلات الأدبية فى فرنسا وفى العالم الناطق بالفرنسية. وهى مجلة شهرية صدر عددها الأول عام 1966 باسم «المجلة الأدبية». وبعد خمسين عاما وبالتحديد فى العام الماضى قررت أن تصدر فى ثوب جديد وأن تفتح صفحاتها للتيارات الجديدة وللقضايا الثقافية الراهنة، وغيرت اسمها تبعا لذلك فأصبحت تسمى «المجلة الأدبية الجديدة». وهذه ليست المرة الأولى التى تتحدث فيها عن الثقافة العربية وعن المثقفين العرب سواء منهم من يكتب بالعربية أو بالفرنسية. لكنها فى موضوعها الأخير نظرت للرسول وللإسلام نظرة واسعة جمعت بين الشرق والغرب. فالرسول والإسلام لا يخصان العرب وحدهم، وإنما هما ملك للبشرية جمعاء، شاركا فى صنع حضارتها، وشارك البشر كلهم فى صنع الحضارة العربية الاسلامية. وفى هذا الحوار الذى دار بين المسلمين وغير المسلمين تطرح الأسئلة من كل من الطرفين على الطرف الآخر وعلى الذات أيضا. فما دامت الحضارة الإنسانية كيانا واحدا يقوم على التعدد والتبادل والمشاركة فهذا الكيان يساير الزمن ويتطور فيه ويتغير ويوافق بعضه بعضا أحيانا، لأنه بهذا الوفاق يخدم نفسه ويضمن أمنه وينتفع بخبرة غيره، ويخالفه أحيانا أخرى ليحافظ على مقوماته الذاتية ويحمى نفسه من الذوبان، وهو فى هذه المخالفة لا يستفيد وحده، وإنما يستفيد ويفيد، لأنه حين يحمى وجوده يحمى وجود الجماعة البشرية التى تقوم على التعدد. ومنذ ظهر الإسلام وهو يطرح الأسئلة على نفسه وعلى غيره، تماما كما فعلت الديانات والحركات الأخري. ونحن نرى أن المسيحية كانت نقدا لليهودية بقدر ما كانت اضافة وتكملة لها. ونرى بالمثل أن الإسلام كان نقدا للديانات التى سبقته كما كان اضافة لها. ونحن نرى بعد ذلك أن الدين لا يقوم بنفسه وإنما يقوم بمن آمنوا به. والمؤمنون بأى دين يتفقون ويختلفون فى فهمهم لعقيدتهم ونظرتهم لأنبيائهم، لأن لكل دوافعه وثقافته ومنابته الأولي. ولأن الدين رسالة جامعة. ولأن حامل هذه الرسالة إنسان ونبي. ولأن النظرة للدين من داخله أى من جانب المؤمنين به تختلف عن النظرة إليه من خارجه. إيمان المؤمن يملى عليه الجواب الذى يتفق مع عقيدته ويطمئن له قلبه، أما غير المؤمن فعقله هو مرجعه إذا كان رجلا حكيما، فإن كان متعصبا لعقيدة أخرى فجوابه هو ما يفرضه عليه تعصبه. من الطبيعى إذن أن تكون صورة الرسول فى نظر المسلمين تختلف باختلاف مذاهبهم، وأن تكون صورته فى نظر القدماء مختلفة إلى حد ما عن صورته فى نظر المحدثين الذين أصبحوا أقرب إلى التسامح والتعقل. صحيح أن تقدم البشر فى العصور الحديثة لم يمنع الشرور التى يعانون منها ولم يقض على التطرف المتمثل من ناحية فى جماعات الإسلام السياسى ومن ناحية أخرى فى الأحزاب الفاشية والتيارات العنصرية الغربية. المتطرفون المسلمون يعلنون الحرب ويشنون الغارات على كل من خالفهم فى كل العالم، والمتطرفون الغربيون يعلنون الحرب على الإسلام ويتهمونه بما هو برىء منه. ولاشك فى أن هذا الوضع لن يتغير مادام كل طرف معزولا سجينا داخل ما يراه وحده ويظن أنه حقيقة مطلقة. والحل إذن؟ الحل هو العقل الذى يفسر الإيمان ويعيد قراءة الأحداث والنصوص قراءة تسمح بفتح المجال للحوار وبالتوفيق بين الإجابات المختلفة. وهذا هو المقصود من نشر هذا الملف واختيار موضوعه. لكن العقل لا يعمل فى الفراغ، وإنما يعمل حين يضع يده على المستندات والوثائق المتوافرة يقارن بين رواية وأخرى ويميز بين الحقيقة والوهم وبين الواقع والخرافة ويبحث عن الأسباب ويصلها بالنتائج باختصار، العقل لا يستطيع أن يعمل إلا فى الواقع كما نراه بعيوننا أو كما نتوقعه ونرى أثره ونستحضره بما نملك من شواهد ووثائق وبراهين وقوانين. وهذا هو التاريخ الذى يجب أن نستند إليه، ونحن نتحدث عن محمد الحقيقي! محمد الحقيقى إنسان، وهذا واقع لاشك فيه، ومحمد الحقيقى نبي، وهذا أيضا واقع لا شك فيه، لأن النبى والإنسان رجل واحد. ومعنى هذا أن صورة محمد فى التاريخ هى صورته فى الديانة. والمشكلة تبدأ حين يبتعد راسم الصورة عن التاريخ وينساق وراء عواطفه ويفهم النص على النحو الذى يتفق مع ما يريد وليس مع الحقائق المتوافرة. هذا الذى قلته هو حتى الآن مدخل لملف حاولت فيه أن أفسر عنوانه، أما ما قاله الكتاب والمفكرون الذين أسهموا فى تحريره وتحدثوا فيه عن النبى باحترام وإعجاب لم يكونا مانعا من طرح الأسئلة الصعبة فسوف نعود إليه فى الأربعاء المقبل. لمزيد من مقالات ◀ بقلم أحمد عبدالمعطى حجازى