لأننى أعلم أننا فى صحافتنا، خاصة فى أدبيات المقالات، نخاطب بعضنا بعضاً ولا يصل صوتنا إلا فيما ندر إلى خارج الحدود، خاصة بالنسبة للشعوب التى تتحدث بلغات أخرى، ولأن مقالى هذا موجه فى المقام الأول للحكومة والشعب الفرنسى الصديق، فأرجو من القائمين على قسم الصحافة والإعلام بالسفارة الفرنسية فى مصر ترجمة هذا المقال وإطلاع سعادة السفير الفرنسى فى مصر عليه، وأرجو منه شاكراً إرسال هذا الخطاب الهام للغاية للحكومة الفرنسية وإبلاغ محتواه لها وللشعب الفرنسى. أولاً: للشعب الفرنسى الصديق وللحكومة الفرنسية بالغ التعازى فى ضحايا الهجوم الدموى على مقر صحيفة «شارلى إيبدو». ثانياً: لم يكن الدين الإسلامى فى يوم من الأيام دين عنف وإرهاب، فمجمل الدين الإسلامى يدعو إلى التسامح والتعايش السلمى بين معتنقى الإسلام ومعتنقى الديانات الأخرى.. بل وإلى احترام حرية العقيدة واحترام شعائر ومقدسات أصحاب الديانات الأخرى.. ولكم أن ترجعوا فى ذلك للنصوص القرآنية وما جاء فى الأحاديث النبوية وكذلك الوقائع التاريخية. ثالثاً: فى كل مجتمع حتى فى مجتمعات مشجعى كرة القدم هناك كما هو متعارف عليه العقلاء والحكماء، كما أن هناك الدهاة والمحرضين على أعمال العنف، وهناك أيضاً المهاويس الذين ينفذون ما يمليه عليهم ويقنعهم به الدهاة والمحرضون، وتنطبق هذه الفرضية البديهية والواقعية على معتنقى الديانات على مستوى العالم أجمع، فكما فى أتباع الديانة المسيحية العقلاء والحكماء فهناك أيضاً الدهاة والمحرضون على العنف، ورفض الآخر وهناك كذلك المهاويس الذين هم وقود تدابير الدهاة.. وكذلك فى الديانة اليهودية وكذلك فى الديانة الإسلامية، وفى كل الديانات الأخرى غير السماوية.. ولكم أن ترجعوا فى ذلك إلى ما يفعله المهاويس اليهود تنفيذاً لتدابير الدهاة من انتهاكات استفزازية للمسجد الأقصى والكنائس فى القدس وفى الأراضى الفلسطينية المحتلة. مختصر القول أن كل مجتمع به عقلاؤه وحكماؤه، كما أن به دهاته وكذلك مهاويسه الذين هم غالباً من أصحاب الثقافات السطحية والعقول الضحلة والآفاق الضيقة، وكما فى الديانات فكذلك فى الحضارات والشعوب. وكما فى حضارة الشعب الفرنسى العريق والصديق حكماء وعقلاء، فأكيد ضمن نسيجه دهاة وكذلك مهاويس ذوو عقول ضئيلة الحجم وآفاق ضيقة، فكما يحرص العقلاء والحكماء فى مجتمعكم وفى كافة المجتمعات الأخرى على احترام الآخر واحترام مقدساته، فهناك المهاويس بنظرية الحضارة والتحضر ممن يستغلون مفرداتها المطاطة كى يسخروا من الآخر ومن شعائره ومقدساته، مما يخلق ضغائن بين الحضارات وحتماً سيخلق صداماً رهيباً بين الحضارات والشعوب، وهذا الصدام إذا ما حدث فالكل فيه خاسر للغاية لا محالة. رابعاً: مع وافر احترامى وتقديرى لحرية الفكر وحرية الإبداع وحرية إبداء الرأى، فإننى، وكذلك الشعوب الإسلامية التى يبلغ تعداد المسلمين بها وفى أرجاء العالم حوالى مليار ونصف مليار نسمة «أى ما يعادل قرابة ربع سكان العالم».. وكذلك أصحاب الفطرة الدينية السوية والسليمة من معتنقى الديانات الأخرى.. لا أعتقد ولا نعتقد أن من حرية الفكر والإبداع ولا من حرية إبداء الرأى تسفيه الآخر والحط من شأنه، والسخرية من دياناته والسخرية من مقدساته، والسخرية من الرسل والأنبياء، والسخرية من الذات الإلهية.. وبالله عليكم ما الإبداع فى رسم كاريكاتيرى يسخر من الذات الإلهية؟!!!!! وما الإبداع فى رسم يسخر من الرسول محمد عليه الصلاة والسلام، وهو رسول ديانة سماوية يعتنقها مليار ونصف مليار نسمة؟! أى إبداع فى ذلك بالله عليكم؟!! إنه استفزاز لمشاعر مليار ونصف مليار مسلم، وطعن فى أقدس مقدساتهم وإشعال الحنق والكراهية والاستفزاز داخل نفوسهم تجاهكم. خامساً: نحن المسلمون فى جميع أرجاء العالم لكم أن تعرفوا عنا وأنا موقن أنكم تعرفون أن رسول الإسلام سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام هو فى صلب عقيدتنا، وفى واقعنا هو أحب إلينا وأعز إلينا من أمهاتنا وآبائنا وأبنائنا وأموالنا.. بل هو أحب إلينا من أنفسنا.. وأن تسخروا منه فى رسوم كاريكاتيرية مسيئة «لا تمت لأى نوع من أنواع الإبداع» فذلك طعنة نافذة فى صميم قلوبنا.. ولكم أن تعرفوا أننا لا نستطيع أن نرد لكم الرسم بالرسم والكاريكاتير بالكاريكاتير، والإساءة لمقدساتنا بالإساءة لمقدساتكم لا لشىء سوى لأن ديننا ينهانا نهياً باتاً عن السخرية أو الإساءة لأصحاب الديانات الأخرى ومقدساتهم، فمثلاً لا نستطيع على الإطلاق أن نرسم رسماً مسيئاً لسيدنا المسيح عليه السلام، لأنه بالنسبة لنا رسول ونبى، ولأننا منهيون بأوامر ديننا عن السخرية من مقدسات أى ديانة سماوية أخرى.. بل من أى ديانة حتى ولو لم تكن سماوية.. ولدينا آية فى القرآن تقول: «آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ»، وآيات قرآنية كثيرة تدعونا إلى احترام أصحاب الديانات الأخرى ومقدساتهم.. أى أننا مأمورون من الله سبحانه وتعالى باحترام وتقديس جميع الأنبياء والرسل والإيمان بهم واحترام كافة الديانات الأخرى.. وعلى ذلك لا نستطيع على الإطلاق السخرية من مقدساتكم، فلماذا أنتم مصرون على استفزازنا وعلى غرس الضغينة والحنق منكم فى قلوبنا بإصراركم على إهانتنا العظمى بالسخرية من شخص رسول الإسلام الذى هو كما ذكرت أحب إلينا حتى من أنفسنا ومن الدنيا بأسرها.؟!! أنتم بذلك تزرعون الفتنة.. وإذا كان عقلاؤنا وحكماؤنا يدينون تصرفاتكم المشينة والحمقاء تلك بالحسنى، ويسألون الله لكم الهداية فإن منا كأى مجتمع آخر الدهاة والمهاويس الذين يجدون فى وسائل العنف الوسيلة المناسبة فى الرد على إساءتكم لمقدساتنا.. فنرجوكم ألا تعطوا فرصة لهؤلاء الدهاة وهؤلاء المهاويس لأن يردوا عليكم الرسم المسىء بالعنف المادى وإسالة الدماء حتى لا تكون فتنة كبرى وصداماً دموياً بين الحضارات.. لا نريد منكم أن تمجدوا فى ديانتنا ولا فى رسولنا «وهى وهو أهل للتمجيد».. فقط نريد منكم أن تكفوا أيديكم عنا بإساءاتكم المتكررة لديننا ورسولنا عليه الصلاة والسلام، لأنه وكما أذكرها مرة ثالثة أحب وأعز عند أى مسلم حتى من نفسه ومن الدنيا بأسرها.. وفى ذلك وأد للفتنة وبعد عن صدام حضارات مدمر وبغيض. سادساً: دعونى أختلف مع الرئيس الفرنسى «فرانسوا أولاند» فى تصريحه منذ أيام قليلة فى معهد العالم العربى بباريس بأن «المسلمين هم أول ضحايا التعصب والتطرف وعدم التسامح».. كلنا يا سيد «أولاند» بالتأكيد سنكون ضحايا التعصب والتطرف وعدم التسامح.. نعم جميعنا.. وأعتقد تماماً، كما أوقن أنك تعتقد تماماً، أن أبشع أنواع التعصب والتطرف هو الإساءة إلى مقدسات الآخر وديانته. إنه التعصب والتطرف بأم عينيه.. ولا نريدها حرباً بين قلم يرسم رسوماً مسيئة لمقدسات الآخر وبندقية تطلق رصاصة وتسفك دماً دفاعاً عن مقدساتها.. نريد نزعاً سريعاً وحاسماً لفتيل مزيد من البغض والكراهية والحنق والعنف.. وكذلك لم يكن موفقاً على الإطلاق تصريح السيدة «كرستيان توبيرا»، وزيرة العدل الفرنسية منذ أيام قليلة أيضاً بقولها: «إن من حق كل شخص أن يسخر من الأديان».. لا يا سيدة كرستيان، ليس من حق أى شخص أن يسخر من دين الآخر.. وإذا أردتم سخرية من الأديان، فلماذا بالله عليكم لم تسخروا يوماً من الديانة المسيحية أو من الديانة اليهودية؟!! ولماذا لم نسمع عن رسم كاريكاتيرى مسىء لسيدنا المسيح أو لسيدنا موسى؟!!! وهل حقاً تستطيعون ذلك؟!!! وما ردة الفعل المتوقعة على فعل ذلك؟.. بل حتى هل تستطيعون السخرية من بابا الفاتيكان فى رسم كاريكاتيرى مسىء؟! لا أظنكم تستطيعون.. وإن فعلتموها فهذه هى حريتكم فى مقدساتكم، ولكن حريتكم تلك المزعومة لا يجب أن تعبر الحدود للسخرية وانتهاك مقدسات الآخر.. وبعيداً عن الديانات والسخرية من الديانات، لماذا لم نسمع أنكم سخرتم يوماً فى رسم كاريكاتيرى مسىء من ملكة إنجلترا مثلاً، أو من نابليون بونابرت، أو من أحد رموزكم؟!! سابعاً: احترمت للغاية تصريحاً لبابا الفاتيكان البابا فرنسيس تعليقاً على هجوم «شارلى إيبدو»، إذ كان تعليقه فى كلمات معدودة شديدة الرقى والاحترام والعقل الراجح، إذ قال فى تصريحه: «إن ثمة حدوداً لحرية التعبير لا سيما عندما تهين أو تسخر من دين شخص ما».. هكذا يكون العقل الراجح والفكر المستنير. ثامناً: وحديثى هنا موجه للحكومة الفرنسية والشعب الفرنسى.. أليست فرنسا التى تدعى أن ثقافتها تقتضى عدم تقييد حرية التعبير عن الرأى، لديها ضوابط تقيد هذه الحرية ومنها قانون التشكيك فى مذابح الأرمن وقانون معاداة السامية الذى سجن بموجبه «جان بلانتين» محرر مجلة «أكريبيا» بتهمة أنه فهم من عباراته التشكيك فى عدد ضحايا المحرقة النازية؟! كما أقيل «موريس سينى»، وهو رسام فى شارلى أيبدو عام 2008، لأنه نطق بما اعتبروه معاداة للسامية؟!.. وكذلك أليس جديراً بالذكر أن «أوليفرسيران»، وهو صحفى كان يعمل فى المجلة الفرنسية «شارلى إيبدو» أدلى بتصريح فى عام 2013 قال فيه: «إن كراهية الإسلام قد استغرقت المجلة تدريجياً بعد أحداث 11 سبتمبر»!!!.. واسمحوا لى بأن أسألكم سؤالاً هاماً: هل معاداة السامية أهم عندكم وأقدس من الله وأنبيائه ورسله ودياناته؟! وكذلك أليس تطرفاً تصميمكم اللامبرر منطقياً والذى لا يتسم بأى تحضر على السخرية من مقدساتنا ومن الاستغراق فى رسوم مسيئة لرسول الإسلام الذى هو عند كل مسلم أحب إليه حتى من نفسه ومن الدنيا بأسرها؟! تاسعاً: لماذا لا تفكر أجهزة المخابرات الفرنسية فى الموساد الإسرائيلى كمدبر ومخطط لهذه الهجمات، خاصة وقد أعلنت فرنسا منذ أسابيع قليلة اعترافها بالدولة الفلسطينية وخاصة والموساد متمرس للغاية فى مثل هذه المؤامرات وبالتأكيد دوافعه لذلك لا تخفى على متوسطى الذكاء؟! عاشراً: وهو المفيد من القول إننى وإننا كمسلمين فى أرجاء العالم.. بل وكأصحاب فطرة دينية سوية وسليمة نطالب الحكومة الفرنسية بأن تطرح على الشعب الفرنسى فى استفتاء مشروع قانون يجرم السخرية من الذات الإلهية والديانات السماوية والأنبياء والرسل.. كما هو معمول به فى قانون معاداة السامية لديكم.. فبالتأكيد أن جرم السخرية من الذات الإلهية والديانات السماوية والأنبياء والرسل أبشع كثيراً من جرم معاداة السامية أو التشكيك فى أعداد ضحايا محرقة النازية.. وليس ذلك تقييداً لحرية الإبداع وحرية الفكر وحرية إبداء الرأى.. بل هو حماية لقدسية الذات الإلهية ولديانات يتخذ منها مهاويس التحضر مادة خصبة لزرع الفتنة والكراهية بين الشعوب والحضارات.. وأعتقد أن فى ذلك نزعاً لفتيل قنبلة شديدة الانفجار توشك أن تنفجر فى صدام حضارات مروع ومدمر. حادى عشر: أعتقد أنه ليس من الحضارة ولا من حرية الرأى وحرية الإبداع أن تستغرقوا فى إهانة ديننا ومقدساتنا ورسولنا، بينما لا تجرؤون على مجرد التشكيك فى أعداد ضحايا المحرقة النازية.. وكما ذكرت عاليه مراراً عن قصد أن رسول الإسلام محمد، عليه الصلاة والسلام، أحب وأعز على كل مسلم حتى من نفسه ومن الدنيا بأسرها.. فلا تجعلوها بسخريتكم منه ورسومكم المسيئة له واستفزازاتكم غير المبررة أسباباً لكراهية بيننا وبينكم وصدام حضارات مدمر.. وأخيراً كل التعازى للشعب الفرنسى فى ضحايا الأحداث المؤسفة.