ارتبط اسم الأديب سمير الفيل بأدب الحرب، فقدم للمكتبة العربية روايتين وثلاث مجموعات قصصية، تدور عن القتال على الجبهة المصرية. بدأ مسيرته الأدبية شاعرا وروائيا، وأغرم بكتابة القصة القصيرة، وشارك فى جمع التراث الإنسانى لمنظمة اليونسكو. لم تجذبه أضواء القاهرة، واختار البقاء فى مدينته دمياط، يعيش بين الناس أطول فترة ممكنة، فى المقاهى والأسواق والمستشفيات وكل الأحياء السكنية، يلتقط أدق تفصيلات الحياة اليومية لينسج منها خيوط السرد متسلحا بالبساطة والعمق إضافة إلى سحر المخيلة، تميز إنتاجه الأدبى بخصوصية التجربة وغزارة الإنتاج. سجل فى «البيت القديم» حكايات الماضى الجميل فى الأحياء الشعبية التى أحب ناسها وكتب عنهم بصدق وبساطة آسرة، لا تخلو من عمق. حول مسيرته الأدبية كان لنا معه هذا الحوار: «كبير أدباء دمياط» لقب عُرفت واشتهرت به.. ما قصة هذا اللقب؟ تعودت أن أكتب بين الناس، وأن أتناول قضايا عصرية ملحة من خلال وجودى فى المقاهى أو الأسواق أو التجمعات الأدبية فى المدينة . أتصور أن المعرفة هى جزء أساسى فى الكتابة، وأن تكون صاحب موقف فيما يمس الناس فى حيواتهم المختلفة. هذا الاقتراب الحميم عنصر رئيس فى عملى . الكتابة فى رأيى مهنة، لكى تنجح فيها لابد أن تتوافر لك أدواتها: اللغة، الأسلوب، الخيال، عمود الحكاية. هى عناصر تتشكل خلال تخليق العمل. كل نص جديد يحتوى على عناصر حية من تاريخك الشخصي، وهوية المكان، وتجربة الشخصيات الذاتية، بمرجعية تتخطى ما وراء السطح، حينها تبث حكمة الحياة، وتكشف مسارات ما لتعبر عن قلقها الروحى العميق. أصدرت خمسة دواوين شعر واتجهت بعد ذلك إلى كتابة القصة القصيرة .. فما هى أسباب هذا التحول؟ حدث التحول دون أن أقصد ذلك، فبعد أن نشرت قصائدى ومنها ما كتب عنه أستاذنا جميعا فؤاد حداد عام 1984 وجدتنى أكتب «الساتر» التى نشرت فى العدد الثانى من مجلة «إبداع» ثم تتوالى نصوصى القصصية هنا وهناك. الغريب أن محمد الشربينى سبقنى وحول «الخيول» 1982 إلى مسرحية «غنوة للكاكى» فى المهرجان الأول لنوادى المسرح 1990. كما أن د. سمير سرحان حين استمع إلى قصيدة «النول» 1984، همس فى أذن من يجاوره: هذا نص قصصى . كنت الكائن الوحيد الذى لا أعرف أين يقودنى النص وقد حدث أنه أخرجنى من جنة الشعر إلى جحيم السرد، الذى اصطليت بناره المقدسة. كتبت الشعر والقصة القصيرة والرواية والمسرح والدراسات النقدية وجمع التراث الشعبي.. بم تصنف نفسك من خلال هذه المسيرة الإبداعية الحافلة؟ أحببت الشعر فى بداية حياتي: صلاح عبدالصبور والسياب والبردونى، وشاركت فى أمسيات معرض الكتاب مع صلاح جاهين وسيد حجاب والأبنودى وظللت منذ سنة 1969 شاعرا معترفا بى فى الدوائر الرسمية للثقافة المصرية حتى حصدت ولثلاث سنوات متتالية الجوائز الأولى فى القصة القصيرة بدءا من سنة 1974. قدمنى الدكتور عبدالقادر القط ككاتب قصة قصيرة في«إبداع» وكانت وسيلتى طابع البريد. تأكد لى أننى أكتب بشكل مختلف وكان يهمنى أن أنقب عن أشكال جديدة فى الحكى وهو ما تمثل فى قصص «النحيب» ، «الخوذة والعصا» ، «سقط فى الثانية صباحا» أنا الآن فى وضع غريب: شخص خرج من بوابة الشعر ليتفقد الأحوال فاجتذبه مغناطيس قوى وفاتن جعلنى فى نقطة الجذب القصصى وحتى النهاية. صنفنى النقد كاتبا مجيدا للقصة غير أن دراسات مسعود شومان وأيمن بكر وسعيد الوكيل قد أدخلتنى مبكرا فى دنيا الشعر وعوالمه البهيجة. تسألنى عن رأيى : أنا قاص، قد أتمرد أحيانا على المواصفات الجاهزة لأكتب شيئا لا يمكن أن يصنف بشكل قسرى وجامد. حصلت عام 2017 على جائزة الدولة التشجيعية عن مجموعتك القصصية «جبل النرجس» وأشار تقرير لجنة القصة إلى أنك تمتلك تجربة فنية طويلة ظهرت واضحة فى هذه المجموعة، ورغم ذلك فقد تصاعدت أصوات تشير لأحقيتك فى الفوز بالتقديرية وليس التشجيعية، ما تعليقك؟ لا أريد أن أدعى المظلومية، أو أن أقلل من أهمية الجائزة التى منحت لى متأخرة. أنا شديد الإيمان بعطائى السردي، فقد كتبت 15 مجموعة قصصية فى 18 سنة، وهو جهد هائل، حاولت خلال تلك المجموعات أن أنحت طريقا شاقا ومدهشا فى فن القص. هذا الجهد ثمنه النقاد بشكل موضوعي، وقد أشارت أغلب الكتابات النقدية لما أمتلكه من طزاجة الحكى، وحيوية الأحداث، والحضور الطاغى للمرأة وغيرها من سمات، وهو ما تجلى واضحا فى كتابات نقاد منهم : د. وجدان الصائغ، د. شهلا العجيلى، د.مصطفى الضبع، د. أشرف حسن، د. عزة بدر، السيد الوكيل، إبراهيم حمزة، د. عيد صالح، وغيرهم. أحسب أننى أستحق الجائزة التقديرية، ولكن للأمانة فإن حصولى على التشجيعية كان مفاجأة لى فأنا لست منضما لشلة، وليست لى معرفة باللجان، وأعتقد أن هناك كتابا على درجة كبيرة من القيمة والموهبة لم يحصلوا على أى جوائز. هو أمر محزن لكننى وغيرى نعرف أن الجائزة مجرد إشارة لجهد ما لكنها ليست نهاية الطريق. هل تعلقك بكتابة القصة القصيرة يعود إلى مزايا لا تتوافر فى الفنون الأدبية الأخرى؟ سألت نفسى هذا السؤال، واستعدت لقائى الوحيد بيحيى حقى فى دمياط حين سألته عن الفارق بين الرواية والقصة القصيرة فهمس لى: انظر. نحن فى غرفة، لو فتحت الباب على اتساعه ونزلت لنهر الشارع ودونت المشاهد جميعها وعرجت للميدان وكتبت فأنت فى حضرة الرواية. ثم جذب الباب الوهمى ناحيته. الباب مغلق فى المواجهة. عندك فرصة لكى تنظر من خلال ثقب المفتاح. سترى دائرة. عليك أن تسجل ما تراه من خلالها بدون زركشة أو تفصيلات.هذه هى القصة. القصة القصيرة تمتاز بالكثافة، واللماحية، واللغة المتقشفة، وزاوية الرؤية التى تجعلك أقدر على اختيار المشهد بما له من دلالات وعلامات. أنحاز للقصة القصيرة قبل هذا وبعده لأنه فن نبيل ويحتاج لأصابع جواهرجى لا لمطرقة حداد. كتبت ثلاثة أعمال رائعة عن حرب أكتوبر رغم أنك قلت إنه من الصعوبة جدا أن تكتب عنها ... كيف تسنت لك الكتابة عن حرب لم تشارك فيها؟ لم أشارك فى الحرب لكننى استخدمت عنصرين فى غاية الأهمية: الصدق الفني، والبساطة. نحن لا نكتب لكى نعذب الناس أو نعقدهم، بل لنمنحهم حيوات أخرى مترعة بالمعرفة والجمال والمتعة. فى رواية «رجال وشظايا»، وفى رواية «وميض تلك الجبهة» بل وفى مجموعة «شمال يمين» هناك معالجة فاهمة وواعية لحدث كبير مثل الحرب، لم أتوقف أمام ضجيج الطائرات وصخب المجنزرات الفولاذية بل اهتممت بالمحارب، وكان تنقيبى الدائم عن أسرار النفس البشرية. هذا ما عبر عنه جورج جحا فى تقريره لوكالة أنباء «رويتر»: عن الشعور البشرى فى الزى العسكرى، وهى نفس التجربة التى أكد عليها كل من سيف بدوى، د. محمد إبراهيم طه فى نصوص مشابهة لي. استخدمت خبرتى فى التسلل لمناطق إنسانية للكشف عما يخفيه المقاتل من مشاعر دافئة وهو يخوض صراع المصير. وأحسب أن وجدان الصائغ وهى ناقدة عراقية قد وجدت نفس النغمة المائزة فى رواية «ظل الحجرة». برأيك، هل نجح أدبنا فى إيفاء حرب أكتوبر حقها المناسب للدور البطولى لقواتنا المسلحة؟ بالتأكيد هناك كتابات عالية القيمة لكتاب من الجيل الذى سبقنا ومنها قصص وروايات جمال الغيطاني، محمود الورداني، فتحى إمبابي، مجيد طوبيا ثم إضافات مهمة لكتاب جيلى ومنهم أحمد ماضي، قاسم مسعد عليوة، محمد الراوي، وسمير عبدالفتاح، ومحمد عبدالله الهادي. هل يندرج كتاب «البيت القديم» تحت مسمى الكتابة الجديدة؟ ولماذا لجأت إلى هذا الشكل الأدبى الجديد؟ تشكلت فكرة «البيت القديم» من مجموعة ذكريات حول الأشياء القديمة التى ملأت حياتنا فى الخمسينيات والستينيات ثم تلاشت أو طواها النسيان مع التحولات الجذرية فى الحياة المعاصرة. حققت «المادة المعرفية» التى كتبتها درجة عالية من التفاعل والانتشار مما جعل د. أحمد مجاهد يطلب منى جمعها فى كتاب، وقد لاقى إقبالا متزايدا خاصة أن المشاركات كانت تضيف وتعمق وتصوب وتمنح الذاكرة قدرا من الشحنات الإيجابية التى تجعل حياتنا الشاقة أقل عبوسا. أعلنت من قبل أن لديك مشروعا أدبيا للكتابة عن أحداث 2011فما هو الجديد؟ انتهيت بالفعل من كتابة أحداث ثورة 25 يناير 2011 ، عبر رواية من قسمين. الأول بعنوان «نظارة ميدان» ويضم 51 فصلا. أما القسم الثانى فهو تحت عنوان «ابتسامة يناير الحزينة»، وتضم 43 فصلا . قدمت الرواية إلى جهة ما، انتظر صدور القسمين بفارغ الصبر. آمل أن أكون قد وفقت فى تقديم وجهة نظرى فى الأحداث عبر تقنية الأصوات. أعتقد أنه تأريخ سردى مهم جدا للأجيال التى لم تعاصر الثورة، وتركت ذلك للمؤرخين بينما الرواية تقدم رؤيتها بنصاعة ودقة وأريحية، دون الوقوع فى فخ التحزب والنظرة الفوقية للأمور.