أقصد بأوروبا هنا معظم العالم الغربي، الذى قدم منذ مطلع القرن الثامن عشر، عصر التنوير كما يسمونه، الكثير من الاختراعات والاكتشافات التى غيرت العالم القديم دون رجعة، ولولا تلك الاختراعات التى تطورت إبان القرنين الثامن عشر والتاسع عشر لبقيت البشرية ترزح تحت كثافة من الخرافات والفقر معا. مع ذلك التطور العلمى تطورت ايضا الفلسفة الاجتماعية والاقتصادية، وبعد معاناة ليست قليلة، دفع فيها ثمن بشرى باهظ، أقصد الحربين العالميتين وما بينهما، استقرت البشرية بشكل عام، على أهمية السلم وأهمية التجارة الحرة وأهمية انتقال البشر ورأس المال من أجل ازدهار عالمى أوسع، ذلك ما سمى العولمة وما صاحبها من ليبرالية اقتصادية وسياسية واجتماعية. إلا أن أوروبا يبدو انها تتراجع، على الأقل عن المنجزات الاقتصادية والاجتماعية التى حققتها العولمة، وتريد ان تحتفظ بالتقدم العلمى ومنجزاته فقط! لذلك هى الآن بشكل عام فى أزمة عميقة. مثلا خروج بريطانيا من السوق الأوروبية المشتركة، على ما تبين ان ذلك سوف يسبب لها صعوبات ضخمة، الا ان الحزبين الكبيرين لهما مصلحة فى الخروج وقفل باب البلاد، المحافظون يريدون قفل الباب على حرية الانتقال البشري، والعمال يريدون قفل الباب على حرية انتقال رأس المال، وكلاهما يحققان التخلص من مخاوف متخيلة وليست حقيقية، فقد أخاف السياسيون الجمهور من انتقال العمالة (الهجرة) ومن انتقال رأس المال، إلا أن الاثنين جزء لا يتجزأ من العصر الحديث. وهذا ما يحدث فى الولاياتالمتحدة مع سياسة ترامب التى تسمى بشكل عام الانعزالية ومنها منع مهاجرين من الدخول الى الولاياتالمتحدة، تصعيد الضرائب على المنتجات المقبلة من الخارج، سرعان ما تبين ان حجما كبيرا من المنتج الزراعى الامريكى اصبح دون مشترين خاصة القمح والصويا التى كانت تباع الى الصين، مما اضطر الادارة أخيرا ان تخصص بلايين الدولارات لتعويض المزارعين!. وهذا يحدث فى أوروبا، فإغلاق ابواب أوروبا امام المهاجرين، كما حدث فى إيطاليا أخيرا قلل من توافر العمالة غير الماهرة فى الخدمات التى لا يتعاطاها الايطاليون، وهذا ما زاد فى اسعار تلك الخدمات، بل ان نقص وجود المزارعين الأوروبيين من دول شرق أوروبا يعرض الانتاج الزراعى فى أوروبا الغربية الى التراجع. هنا يدخل عنصر جديد على المعادلة اسمه الشعبوية أى أن السياسيين خلقوا، من اجل الحصول على الأصوات، غول خرافى اسمه أخطار الهجرة فى الوقت الذى يقوم اقتصاد أوروبا على الهجرة، كما ان الولاياتالمتحدة من بناها، كما هى اليوم غير المهاجرين!. فى الوقت نفسه ان تلك السياسة الاقتصادية التى تريد ان تحمى نفسها، ترغب فى الوقت نفسه بتصدير بضاعتها الى العالم، اى نرفع عليكم الضرائب وتسمحون لبضائعنا بأن توزع عندكم. واضح ان هذه السياسية، وان وجدت من يؤيدها على المديين القصير والمتوسط، هى مضادة للمصالح العامة لهذه الشعوب فى المدى الطويل. اليوم تجد فى بريطانيا من يتحدث عن السماح للهجرة الانتقائية تحت ضغط الحاجة. موت هذه السياسات التى أخذت كثيرا من دول أوروبا الى اليمين، لن يكون مفاجئا لمن يتابع الأمور فهذه المانيا، التى من الواضح انها تحتاج الى مهاجرين، خاصة من الشباب، تقاوم تلك السياسيات، وتتزعم المقاومة السيدة انجيلا ميركل، وقد فقدت بعض شعبيتها، إلا انها مدركة للمخاطر التى يمكن ان تصيب الاقتصاد الألمانى لو اغلقت الحدود تماما أمام الهجرة . الازمة الكبرى التى تواجهها أوروبا اليوم هى ازمة هيكلة لا تلعب فيها الهجرة او انتقال رأس المال الا القليل، أما اسبابها فهى اعمق وكامنة فى الهيكلة الاجتماعية الاقتصادية التى سارت عليها دولة الرفاه، تلك الهيكلة تآكلت وأصيبت بضرر بالغ بسبب تقدم التكنولوجيا، التى استغنت عن جهد الانسان، وبسبب احتضان مجتمعات أخرى كبيرة مثل الهندوالصين والبرازيل سياسات صناعية و تقنية، غيرت من هيكلية التجارة الدولية كما عرفت منذ زمن. وكالعادة فإن السياسيين قصيرو نظر، يريدون أن يحملوا أسباب المشكلة على آخرين، فأوروبا ليست وحدها، كما كانت فى القرنين التاسع عشر ومعظم العشرين، أصبح لها شركاء استفادوا من العولمة والتقدم العلمى والتقنى الهائل الذى حققته البشرية، الغربيون بعيدون عنها بانعزالية، وربما تأخذنا هذه الازمة العميقة الى حروب جديدة، تباشيرها الحروب الاقتصادية الدائرة اليوم. لمزيد من مقالات ◀ د. محمد الرميحى