فهم ما يجرى بين الولاياتالمتحدةوتركيا حاليا يتطلب، أولا، تخطى مجرد قصة احتجاز القس الأمريكى أندرو برونسون لدى سلطات تركيا، والتمعن، ثانيا، فى تكتيكات صراع المصالح القومية للطرفين، ومحاولات إدارة دونالد ترامب التوازن بين التخلص من مسئوليات وتكاليف دور القيادة التقليدى الذى طالما لعبته الولاياتالمتحدة دوليا من جانب، وتجنب خسارة ما كانت تكفله هذه القيادة من مكاسب سياسية واقتصادية من جانب أخر، مع النجاح فى تذكير حليف متمرد بمحدودية قدره. برونسون باختصار هو قس إنجيلي- وهويته الدينية بالمناسبة لها بعض العلاقة الوثيقة بالأزمة، إذا ما تذكر المرء دور الكتلة الإنجيلية كإحدى الدعائم الشعبية والانتخابية لترامب- احتجزته السلطات التركية قيد الإقامة الجبرية بمنزله منذ عام 2016 لاتهامه بالتواطؤ مع الداعية التركى المنشق فتح الله جولن والذى تتهمه حكومة «العدالة والتنمية» بتدبير محاولة الانقلاب الفاشل منتصف 2016. خضوع برونسون للمحاكمة قد ينتهى به إلى قضاء 35 عاما فى السجن. طلبات أمريكا المرفوضة من جانب تركيا بإطلاق سراح برونسون انتهت إلى فرض واشنطن عقوبات متنوعة على أنقرة ما بين حظر وزارات الداخلية والعدل من التعامل مع قطاع البنوك الأمريكى ضمن قطاعات أخري، وبين مضاعفة التعريفات الجمركية على واردات أمريكا من الألومنيوم والصلب التركي. هائلة هى ردة الفعل الأمريكية، ولكنها لا تستهدف حماية برونسون فى حد ذاته، وشديد هو التعنت التركي، لكنه ليس سعيا لمحاكمة القس المتآمر فى حد ذاته. فأمريكا تهدف فى الأساس إلى إلحاق الألم بنظام أردوغان، والذى يعتبر أنه تنكر تماما لكل ما كان منتظرا منه كشريك استراتيجي، وزميل فى عضوية حلف شمال الأطلنطى «الناتو». صحيح أن تركيا سبق وتمردت على أمريكا فى وقائع عدة منها ما كان من إنكار استخدام القوات الأمريكية أراضيها كمنصة إنطلاق فى عملية غزو العراق عام 2003. لكن تركيا- أردوغان تمادت أكثر فأكثر، فهناك، مثلا، الشراكة العسكرية الوثيقة مع روسيا، والتى بلغت حد شراء تركيا أنظمة دفاع جوى روسى من طراز «إس- 400». يمكن فهم وقع أخبار هذه الصفقة على المسامع الأمريكية، بمجرد مطالعة وثيقة سياسة الدفاع الأمريكية لعام 2019، والتى تسمى روسيا بوضوح ك»خصم استراتيجي» وتوصى باستمرار تعليق «التعاون العسكري» معها، مع استهداف فتح أسواق جديدة لمبيعات السلاح الأمريكي، مما يعنى مزاحمة روسيا فى أسواقها التقليدية للسلاح. ومنطقيا، أن تحتوى الوثيقة ذاتها تعليق لا لبس فيه لتسليم صفقة مقاتلات «إف- 35» الأمريكية والتى سبق ودفعت تركيا ثمنها. والأمر بالأمر يذكر، فالتعاون التركى – الروسى يأخذ أشكالا أخرى كان أبرزها الدور المزدوج لتركيا على صعيد سوريا. فمن جانب، عاندت تركيا طويلا التطبيق الأمريكى للدور الكردى فى شمال سوريا، فاستهدفتهم سياسيا وعسكريا، وغضت الطرف طويلا أيضا عن تسرب المئات من المقاتلين المتطرفين من كل حدب وصوب وعبر حدودها إلى داخل سوريا للانضمام إلى صفوف «القاعدة» أو «داعش». جعل هذا كله وغيره من تركيا- حليف «الناتو» المفترض- أقرب إلى روسيا فى ساحة المعركة السورية وأبعد ما تكون عن الولاياتالمتحدة. وهناك طبعا التحالف المتنامى أيضا مع إيران، والذى يدفع بتركيا فى مواجهة جديدة بخصوص حظر استيراد البترول الإيرانى والمدفوع أمريكيا والمرفوض من جانب أنقرة. ومع تزاحم دوافع الصدام، تبرز معضلة فتح الله جولن، الذى تطالب تركيا منذ موقعة الانقلاب الفاشل أمريكا بتسليمه واتباعه، وأمريكا من جانبها تصر على رفضها، فلماذا تقبل تركيا إذن تسليم برونسون؟ ومع هذا كله، هناك التوجه الفكرى والسياسى للنظام على الجانبين، فالتزام ترامب أقصى اليمين وتبنيه منطق» أمريكا أولا»، والتزام أردوغان بحلم «المجد العثماني» والقومية التركية يخلق أسباب فوق الأسباب للتصادم، وتبقى العقوبات والتلويح بمواجهات عسكرية محتملة مجرد عارض من أعراض كل ما سبق. لكن «كادر» المشهد لا يقتصر على أردوغان وترامب وأجهزة الدولتين وراءهما وبينهما، هناك لاعبون آخرون فى «الناتو» وأوروبا وحتى الشرق الأوسط سيكون لهم تأثير واضح على حسم ما يبدو أنه أزمة « القس برونسون».