انطلق فكر سمير أمين, الذى رحل مؤخرا, من تحدى صياغة العالم على أساس أنماط متعددة من هيمنة الرأسمالية العالمية على الاقتصادى والاجتماعى بل والثقافى، لأنها نظام/ للعالم، تحكمه مرحلة تطور منذ عدة قرون باسم الرأسمالية العالمية. وهى لم تقصر يوما فى مد شباكها، فى انحاء مختلفة من هذا العالم، لأنها لم تستطع أن تكون إلا إمبريالية، توسعية، ولم تستطع ان تكون رحيمة مع شعوب حاولت التحرر منها أو الاعتماد على ذاتها... حتى الآن. هذا هو سمير أمين (1931 - 2018 ).لسمير أمين ميراث كبير اهتم بتقديمه بنفسه، فى أربع روايات من المذكرات الشخصية ليشرح تجربته وأفكاره الغنية، فى اطار موقف أساسى أنه ليس عالم اقتصاد سياسى فحسب بل ناشط سياسى أيضا. لم تكن رحلة حياة سمير أمين سهلة أو بعيده عن واقعه المصرى بقدر مسارها العالمى منذ الستينيات. فقد عاش صعوبات حركة اليسار فى مصر وهو فى العشرينيات من عمره إزاء صدامها المبكر مع الزعيم جمال عبد الناصر وحركة ثورة يوليو 1952، فغادر مصر للتعلم فى السربون ودراسة الاقتصاد السياسى هناك (1954)، بينما كان عضوا نشيطا فى حزب الراية الشيوعى بمصر، ثم عاد إلى مصر بعد معركة السويس 1956 ليعمل فى المؤسسة الاقتصادية المصرية، ويصدر دراسته عن التيارات النقدية والمالية فى مصر (1957). لكن سمير أمين لم يُترك لحاله فى مصر، فقد عاش أزمة الشيوعية الكبرى مرة أخرى مع عبدالناصر 1959 / 1964، فغادر ثانية الى باريس, وظل يتابع الاهتمام والكتابة عن مصر حتى كتب عن الناصرية والشيوعية فى مصر 2013، وقبلها وبعدها أصدر ثلاث ةكتب تباعا عن ثورة مصر 2011 حول ماحدث ومايحدث لاحتواء الثورة 2011,1952 وليس هذا مجمل انتاجه لأنه أصدر فى الواقع أكثر من خمسين كتابا ذات أصول بالفرنسية والانجليزية. رأى سمير أمين خلال تجربته فى مصر أن هناك ثلاث مجموعات من القوى تشارك فى المعارك السياسية فى مصر والمنطقة هى: تلك التى تنادى بالعودة إلى الماضى الوطنى ( ولكنها لا تعدو أن تكون وريثة البيروقراطية الفاسدة للمرحلة الوطنية الشعبوية), وتلك التى تنتمى للإسلام السياسى؛ وتلك التى تحاول الالتفاف حول تطبيق ديمقراطى يتماشى مع الإدارة الليبرالية للاقتصاد. وسلطة أى من هذين الاتجاهين غير مقبولة من قبل يسار يهتم بمصالح الطبقات الشعبية ومصالح الأمة. وفى الواقع، فإن معظم عناصر هذه الاتجاهات الثلاثة تعبّر عن مصالح الطبقات الكومبرادورية المتحالفة مع النظام الإمبريالى القائم. وقد شمل ذلك معظم المنطقة العربية إذ كنت فى مصر، منذ أوائل الخمسينيات، من أنصار الوحدة العربية. رؤية سمير أمين للعالم: يتوجب الآن إلقاء نظرة على تصور سمير أمين للعالم: - الاستقطاب الرأسمالى على المستوى العالمى: مع نقد سمير أمين للنظريات الاقتصادية البرجوازية مثلما عند ريكاردو أو الكينزية فقد توصل إلى فكرته الشهيرة عن التراكم الرأسمالى على صعيد عالمى؛ انطلاقا من مبدأ أن هذا التراكم ليس تراكما فى نمط الإنتاج الرأسمالى مطبقا على صعيد عالمى وإنما لأن الرأسمالية هى التى تشكل نظاما عالميا يخلق عملية الاستقطاب على الصعيد العالمى، وتتشكل من خلال هذه العملية فكرة المراكز والأطراف دون أن تعنى تجنيس الكوكب وفق نمط الإنتاج الرأسمالى، وإنما وفق آلية التوسع وإدماج الأطراف داخل النظام الرأسمالى العالمى (انتقلت أمريكا خلال هذه العملية من طرف إلى جزء من المركز الرأسمالى العالمى بعد المرحلة المركنتلية (1500-1800) التى فجرتها الثورة الصناعية، ومن هنا بدأ بروز التبادل غير المتكافئ بين المراكز والأطراف منذ 1880 خاصة مع التمايز فى الأجور تبع تقدم الإنتاج، فى حين تميزت المرحلة السابقة بجمود الأجور الحقيقية. ومن هنا أيضا تغيرت التحالفات ومواقف البرجوازية (من العمال والأطراف على السواء). وقد كانت المنافسة بين المراكز الرأسمالية هى الأساس لعقود طويلة بينما كانت الهيمنة المركزية هى الاستثناء حتى تغير الموقف إلى العكس بعد الحرب الثانية بنفوذ الولاياتالمتحدةالأمريكية وخلال ذلك لم يتحقق التمركز ثانية - فى البلدان التابعة المندمجة - لافتقاد القوى القادرة على السيطرة على عملية التراكم وإنما باتت القوى الخارجية هى التى تتحكم فى مدى التراكم واتجاهه إزاء افتقاد قدرة الدولة أيضا فى الأطراف على القيام بذلك. -التخلف والتنمية فى الأطراف: قدم سمير أمين تحليله المتميز عن «نشوء التخلف وانتشاره، منذ منتصف الخمسينيات، وذلك بوصفه التخلف كنتاج للتوسع الرأسمالى العالمى، لا تأخراً فى التطور الرأسمالى بالأطراف. وفى رأيه «أن التطور والتخلف يشكلان وجهين لعملة واحدة: التوسع الرأسمالى»؛ فالاقتصاد المتخلف- فى رأيه- لا وجود له بذاته وإنما يشكل عنصرا من الاقتصاد الرأسمالى العالمى، وتخضع مجتمعات الأطراف دائما لعملية تكييف بنيوى مع مقتضيات تراكم الرأسمال على صعيد عالمى، ولا حل لمسألة الاستقطاب الحتمى فى إطار الرأسمالية. وقد قاده تعميقه لهذه الفكرة وتحليلها على المستوى العالمى الذى يتخذه وحدة للتحليل إلى توصيف المجتمعات الخراجية التاريخية فى مراكزها الثلاثة (العربى الاسلامى - والصينى والهندى) كنظم مركزية سابقة بينما كانت المجتمعات الأوربية والأفريقية واليابانية والجنوب شرق آسيوية الأخرى تشكل أطرافا بالنسبة لها. -التبعية والعوالم الأربعة: قادت انتقادات سمير أمين لسياسات الرأسمالية العالمية فى الاستقطاب والاندماج وما لحق بها من الفلسفات التنموية إلى أن يضعه البعض كأحد أعلام مدرسة التبعية وهو لا يرى نفسه كذلك رافضا تماما لهذا التوصيف ولكنه يعتبر أن مساهماته عن التراكم على صعيد عالمى، ونظام الاستقطاب والتوسع الرأسمالى العالمى كانت مساهمة مبكرة حول فكرة الإلحاق الذى وقع للعوالم الثلاثة الأخرى فى النظام/ العالم، وسابقة بدرجة أو أخرى عن حديث التبعية، ومن هنا لا يجوز فصل ما سمى العملية التنموية فيما بين 1955-1990 عن هذا النظام على نحو ما يفعل بعض العالمثالثيين. وكان من المهم هنا أن يقوم سمير أمين بتصنيف دائم لهذه العوالم الأخرى خارج المركزية الأوربية وتوصيفاتها. من هنا إعادته النظر فى فكرة نمط الإنتاج الرأسمالى الذى تلحق به عادة بعض مجموعات دول الجنوب. لمزيد من مقالات حلمى شعراوى