يروج بعض المنتمين لتيار الإسلام السياسي هذه الأيام لتبني نمط اقتصاد يسمونه إسلاميا مدعين أن فيه الخلاص من مشكلات مصر الاقتصادية والاجتماعية. لكن غالبية من يتكلمون عن الاقتصاد الإسلامي من تيارات الإسلام السياسي يعنون, في حقيقة الأمر, اقتصادا رأسماليا قحا, ومنفلتا ولا مانع من أن يكون احتكاريا, علي أساس تقديس الملكية الخاصة إلي أبعد المدي, وبشرط أن يمتلك أصوله ومشروعاته رجال أعمال ينتمون للتيار, ولكن بإسدال عباءة سوداء رقيقة من قشور إسلامية مثل منع الفائدة باعتبارها ربا. ويصطنع البعض إسقاط بعض أحكام العبادات علي المعاملات تلفيقيا. ولا يتفقهون في أحكام المعاملات أو المقاصد الكلية للشريعة الإسلامية السمحاء التي لابد وأن تحكم كل أمر يدعي الانتماء للإسلام. بل يكتفون بانتحال شكلي لبعض عبارات القرآن الكريم والسنة النبوية, ولبعض سلوك السلف الصالح, الرسول وأصحابه, وقت البعثة وبعدها بقليل, معرضين بذلك عن النصيحة الذهبية للرسول الكريم: أنتم أعلم بأمر دنياكم. ولأصل الحديث المتضمن للنصيحة مغزي منير, إذ في رواية عن أنس وعائشة رضي الله عنهما: أن النبي صلي الله عليه وسلم مر بقوم يلقحون (النخيل), فقال: لو لم تفعلوا لصلح; قال: فخرج شيصا (غير ناضج), فمر بهم فقال ما لنخلكم؟ قالوا: قلت كذا وكذا, قال: أنتم أعلم بأمر دنياكم.. إذن الأمر متروك للمؤمنين في التفكير والتدبير بما تصلح به دنياهم بينما بالعبادات تصلح آخرتهم. كما يبتعد مدعو الإسلام السياسي عن الأمر الألهي بعمارة الأرض مفضلين التجارة, ولو شابها غش أو احتيال, وياحبذا لو كانت احتكارا, بناء علي حديث ينسبونه إلي الرسول يقول تسعة أعشار الرزق في التجارة. والاتفاق أن الحديث ضعيف, ولا مصحح له. وفي قول آخر تسعة أعشار الرزق في التجارة و العشر في المواشي. وجلي أن الحديث, ولو صح, لصيق ببيئة اقتصادية بدائية تناسب الجزيرة العربية قبل البعثة النبوية, ولا يتصور عاقل أن يعمل به في عصر غزو الفضاء والإنترنت. إلا أن هناك مجالا للإبداع الفكري في صوغ مفهوم للاقتصاد الإسلامي يقوم علي الأسس الإنسانية السامية للإسلام المستنير, مثل عمارة الأرض باعتبارها استخلافا من الله للإنسان, بقصد عمارة الأرض وإقامة العدل وتكريم بني آدم( صيانة الكرامة الإنسانية بلغتنا الحالية), جميع بني آدم, من دون أي تفرقة أيا كان معيار التمييز. غير أن تيارات الإسلام السياسي تتحاشي الخوض في هذا الاجتهاد لأن كل ما تريد من التشدق بالاقتصاد الإسلامي هو اقتناص التحكم في الاقتصاد الرأسمالي الفاشل والفاسد الذي قام في أغلب البلدان العربية تحت الحكم التسلطي الفاسد, ومن دون تغييرات أساسية تتماشي مع جوهر الإسلام السمح. ولكن تقوم أهمية الآن لدعم الاجتهاد من أجل تأسيس الاقتصاد الإسلامي المستنير. في ضوء انتشار أنظمة الحكم ذات التوجه الإسلامي في كثير من البلدان العربية, خاصة بلدان المد التحرري العربي. ولعل المبدأ الأساس للاقتصاد الإسلامي المستنير هو أن الله استخلف الإنسان لعمارة الأرض بقصد تحقيق العدل بين الخليقة وضمان كرامة الإنسان, وليس لمغانم شخصية أو للتقلب في الإثراء الشخصي. وميزة هذه العبارة الموجزة أنها تقدم معايير ثلاثة واضحة للحكم علي ما يمكن أن يعد اقتصادا إسلاميا بحق: عمارة الأرض من خلال استخلاف البشر في مال الله, وإقامة العدل, وصيانة الكرامة الإنسانية. أما ما خالف هذه المعايير الثلاثة فليس من الإسلام في شيء, اقتصادا أو غيره. ولننظر في بعض الأمثلة المهمة. عمارة الأرض تعني باختصار إقامة المشروعات الإنتاجية, ولكن غالبية رجال الأعمال المنتمين للإسلام السياسي ليسوا إلا تجارا عزفوا بإصرار عن إقامة المشروعات الإنتاجية. وآفة التجارة والاقتصاد عموما في المنظور الإسلامي, وحتي في المنظور الرأسمالي السليم, هو رذيلة الاحتكار. فالاحتكار يتنافي مع ثلاثية التوجهات الكريمة هذه جميعها, كما يتنافي مع أسس الرأسمالية السليمة, التي تشترط حماية المنافسة ومحاربة الاحتكار. ومع ذلك لا نجد في برامج جماعة الإخوان أو حزبها, ولا في نطق مسئوليهما, أو نطق شيوخ السلفيين الذين آلوا علي أنفسهم إفساد الحياة علي كل من يؤمن بالدولة المدنية الحديثة القائمة علي المواطنة الشاملة والمتساوية للجميع, لا نجد أي ذم للاحتكار في مجال الاقتصاد والأعمال. ما يثير الخشية أن مشروعهم الاقتصادي الذي يسمونه إسلاميا لا يتعدي مجرد تحويل الاحتكارات التي ما زالت تضر الاقتصاد المصري والمصريين عامة, من بقايا نظام الحكم التسلطي الفاسد الذي قامت الثورة الشعبية العظيمة لإسقاطه, إلي بعض من أساطين تيار الإسلام السياسي, رجال الأعمال الجدد المتنفذين ذوي اللحي الكثة. بينما الاحتكار يضرب العمران في مقتل, ويفتح أوسع الأبواب للظلم الاجتماعي من خلال الإثراء الفاحش للمحتكر, من دون أي إضافة لعمران الأرض, ولو علي حساب الإضرار بمجمل الناس- المشترين من السوق المحتكرة. كذلك البنوك المسماة بالإسلامية تدعي خداعا للسذج أنها لا تتعامل بالفوائد وكل ما في الأمر أنها تسميها بأسماء ذات رنين إسلامي مثل المضاربة والمرابحة. وعلي سبيل المثال, فقد اقترضت مصر بعد تنصيب الرئيس المنتمي للإسلام السياسي مباشرة مليار دولار من البنك, الإسلامي أيضا, بفائدة محددة معلنة سلفا تبلغ 3.5% سنويا, علي حين أن المقرض والمقترض كليهما يحملان اللافتة الإسلامية. وكيف يكون الربا إن لم يكن هكذا.؟ وكمثال آخر, نلاحظ أن شركة القوات المسلحة للأمن الغذائي تنتج وتسوق محليا وتستورد من الخارج, وبالطبع تحقق ربحا, ومع ذلك تبيع السلع الغذائية بأسعار تقل بقدر 30-40% عن أسعار المحال الخاصة. وهذا يعني أن هامش الربح في هذا القطاع لا يقل عن 40-50% وهو مبالغ فيه جدا بالمقارنة بأي اقتصاد رأسمالي في العالم. هو للحق سرقة ونهب للمستهلكين المطحونين في غياب دولة أو حكومة محترمة ومسئولة تقوم بواجباتها لضبط الأسواق حماية للصالح العام. فهل تعلمون الآن لماذا يسعي رجل الإخوان القوي, نائب المرشد, لاحتكار هذه الأسواق, كما أعلن أخيرا؟ ولا ننسي في النهاية, أن الإخوان المسلمين قد عارضوا بضراوة الإصلاح الزراعي الذي لا يثور شك في مساهمته في تحقيق العدالة الاجتماعية. كما لا ننسي أن منتمين إلي تيار الإسلام السياسي لم يتورعوا عن النصب والاحتيال للإثراء الشخصي باسم الإسلام كما حدث في فضائح شركات توظيف الأموال. المزيد من مقالات د . نادر فرجانى