حين نشر د. رمزى زكى الاقتصادى المصرى المعروف كتابه، وداعا للطبقة الوسطى، لم يكن التآكل والانحسار قد بلغ الحد الذى بلغه هذه الايام، لكن د. رمزى كانت له رؤى استباقية، لم تعتمد على الحدس والنبوءات بل على قرائن وحيثيات بدأت تنذر بغروب هذه الطبقة التى كان لها عبر التاريخ دور الحاضنة للحركات بمختلف اشكالها، والإبداع بمختلف مجالاته، لهذا كان عنوان الكتاب صادما للبعض لأنهم كانوا اسرى ثقافة تحكمها النوستالجيا، ويتصورون ان تلك الطبقة باقية بأدبياتها وتقاليدها إضافة الى انماط الإنتاج التى تفرزها، لكن بمرور الوقت تعرضت الطبقة الوسطى فى العالم العربى بالتحديد الى القضم واصبحت مهددة بالانزلاق الى ما هو أعلى أو ما هو ادنى، ولسوء الحظ فإن شعار «كل شيء خاضع للسوق» بدأ بتجريف هذه الطبقة وإفراغها من محتواها ثقافيا وسياسيا واجتماعيا. هذا بالرغم من ان التباين الشديد فى أنماط الانتاج فى العالم العربى لم يفرز طبقة متوسطة متجانسة، ولو عدنا الى النصف الاول من القرن الماضى لوجدنا ان الحركات والثورات وموجات التحديث والإبداع كانت من نتاج هذه الطبقة، فهى الحارس التاريخى والضامن السياسى للاستقرار، لكن تآكلها شطر المجتمعات الى اغنياء وفقراء فقط، وبدأت الطبقة الوسطى كما قال كاتب ارجنتينى تتأرجح بين الخوف من الفقر، وبين التطلع الى الثراء، وبذلك فقدت كثافتها، وأسهم فى ذلك ما حدث من أزمات اقتصادية فى العالم وجاءت أحداث مطلع هذا القرن التى دشنها زلزال مانهاتن فى الحادى عشر من سبتمبر عام 2001 لتزيد الطين بلة كما يقال، فقبل هذا الحدث الذى شطر التاريخ الحديث الى ما قبل سبتمبر وما بعده كانت آلاف المنظمات غير الحكومية التى عقدت مؤتمرها فى دربان تبشر بولادة قوة شعبية عالمية ليست على غرار كتلة عدم الانحياز بل بديناميات مختلفة، تحدّ من سيطرة ونفوذ القطب الواحد، وتتيح للشعوب ان تشارك فى صياغة مصائرها، وهنا لا يمكن لأحد إنكار ما بثته العولمة من ثقافة أحادية البعد، تسعى الى قطعنة الشعوب وتحويلها الى مجرد كتل ديموغرافية صماء، وكان المجال حيويا ومتاحا لهذه الثقافة بعد نهاية الحرب الباردة وانحسار اليسار بل تغييره دوره التاريخي، بحيث اصبح منشغلا بالمناخ والبيئة والتصحر وحقوق الإنسان. لكن وفق تعريفات جديدة لهذه الحقوق سعت الليبرالية إلى تسويقها عبر الميديا المؤدلجة، وبالرغم مما قيل عن وداع الطبقة الوسطى كان هناك امل لدى البعض بأن تستعيد عافيتها فى نصف قرن او اكثر قليلا، لأنها لم تكن مستحدثة وعديمة الجذور او طافية على سطح المشهد، ولم يخطر ببال هؤلاء ان بلدانهم على موعد مع انفجارات اطلق عليها اسم «الربيع العربي» تيمنا بالربيع الاوروبى الذى عصف بأوروبا فى منتصف القرن التاسع عشر، ولم تكن الطبقة الوسطى هذه المرة التى لعبت دور البطولة فى الدراما العربية التى لم تنته فصولها بعد، فالحركات شملت ناشطين عابرين للطبقات او متسللين بينها، لأن رسائل التواصل هى التى لعبت الدور فى الحشد والتحريض والوعود بيوتوبيات او مدن فاضلة، انتهت بعد اقل من عقد الى ديستوبيات او مدن راذلة، بعد ان اختطفت اسباب الحركات قبل الحركات ذاتها وامتطت الموجة نماذج لا يحدد الوطن الجهة التى يتحرك نحوها سهم البوصلة . ولم يخطر ببالنا حين قال الجنرال شوارتسكوف ان امريكا ستخرج العراق من القرن العشرين وتعيده الى القرن الثامن عشر ان هناك مثل هذه المشاريع تطبخ على نار هادئة ومحلية لإعادة العالم العربى الى ما قبل الدولة، بحيث يملأ الفراغ الناجم عن غياب الدولة بالقبيلة والطائفة والمذهب، وكانت بعض البلدان العربية قد قطعت شوطا فى تمدين الدولة واقتربت من تحويل الطوائف المتناحرة الى اطياف سياسية متعايشة، لكن ما حدث هو انفجار عدة مكبوتات دفعة واحدة ومنها المكبوت الطائفى الذى كانت تغذيه قوى دولية وإقليمية وتعلم ان انفجاره يشترط إضعاف الدولة اولا، بحيث تسطو الهويات الفرعية على الهوية القومية الأم وتنقلب قائمة الأولويات الوطنية رأسا على عقب، والدولة التى قطعت شوطا فى التمدين والمأسسة اصبحت فى اقل من عشر سنوات تحكم بالمحاصصة الطائفية، ورغم ان النموذج الذى قدمه بريمر فى العراق والذى بدأ بتفكيك الجيش كان جديرا بتنبيه العرب الى ان كل الشعارات والذرائع التى تستخدم لاحتلالهم او إنقاص سيادة دولهم لم يكن هدفها الديمقراطية والدفاع عن حقوق الشعوب بقدر ما هو تجريفها واعادتها الى ما قبل الدولة، وما نزفه العراق حتى الآن من الاحتراب الطائفى يبرهن ميدانيا على ان الهدف من احتلاله ليس تحريره من نظام استبدادى ولعلها واحدة من اغرب مفارقات التاريخ ان يرفع شعار الاحتلال من اجل التحرير فى نهايات القرن العشرين!. وما سمى الفترات الانتقالية التى مرت بها بعض المجتمعات العربية تحولت الى فترات انتقامية وتصفية حسابات، وأوشك المتطرفون ان يفعلوا بعواصم بلدانهم ما فعله الراديكاليون الروس بعد انتهاء الحقبة الستالينية حين طالبوا بخلع السكك الحديدية وتدمير المؤسسات والمنجزات التى تمت فى زمن ستالين، ناسين او متناسين ان هذه المنجزات اصبحت ملكا للشعب ومن استحقاقاته بمعزل عن توقيع من شيدها، وهناك حادثة وقعت بعد ثورة 23 يوليو بمصر تستحق الاستذكار فى هذا السياق وهى ان احد مديرى الإذاعة المصرية طالب بمنع اغنيات ام كلثوم وعبد الوهاب لأنهما عاشا فى زمن الملكية، وحين سمع الزعيم الراحل عبد الناصر بهذه الحادثة اتصل على الفور بالرجل الذى اتخذ ذلك القرار وقال له ساخرا، اذهب غدا الى الاهرام ودمرها لأنها كانت قائمة لآلاف السنين قبل ثورة يوليو». لكن مثل هذه الرؤى الرشيدة والمتوازنة غابت عن بعض الحركات التى اصابها العمى، واختلط الامر على البعض فلم يفرقوا بين الدولة والنظام ، ولم يدركوا ان تفكيك الدولة وتهشيمها خسارة قومية شاملة ، والنهاية المحتمة هى الفراغ الذى لا يملأ إلا بالفوضى او التدخل الخارجي!. لمزيد من مقالات خيرى منصور