«دعنا نتعامل معا ضد هذا الوغد». هذه عبارة قالها ماوتسى تونج عام 1973 لوزير الخارجية الأمريكى حينها هنرى كسينجر. أما الوغد الذى قصده ماو فكان الاتحاد السوفييتي. وتمثل العبارة دليلا على نجاح نظرية كسينجر فى مواجهة موسكو. فعندما زار كسينجر الصين فى 1971، سعى لما هو أبعد من إنهاء خصام دام لأكثر من ربع قرن مع بكين. أراد كسينجر أن يطبق ماوصفه أحد زعماء الكريملين البارزين ب«دبلوماسية المثلث»، وتتلخص فى دخول طرف ثالث لإفساد علاقة بين دولتين من خلال تقليب عداوات الماضى التقليدية بينهما. واستطاع كسينجر بفضل براعته أن يخلق تحالفات إستراتيجية جديدة فى آسيا وفى العالم ككل بما أسهم فى احتواء الاتحاد السوفييتي. ويبدو أن نهج الإدارة الأمريكية حاليا مع روسيا يعكس نظرية كسينجر بهدف تحجيم الصين والحد من قوتها المتنامية. وبحسب تقرير نشرته صحيفة «دايلى دايجست»، فإن كسينجر اقترح نظريته على جاريد كوشنر، زوج ابنة الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، وأن الاقتراح وجد آذانا صاغية. كما التقى كسينجر أيضا بترامب عدة مرات منذ الحملة الانتخابية 2016، بما يرجح أنه لايزال مرجعا مهما فى رسم السياسة الخارجية، بغض النظر عن سجله غير الناصع وما يتضمنه من اتهامات بارتكاب جرائم حرب. وفيما يتعلق بالعلاقات بين واشنطنوبكين، فإن كسينجر ليس من الصقور أى من المعادين للصين، بل يقال إنه على اتصال مباشر مع الرئيس الصيني، لكن مشاريع الطرق القارية والبنية الأساسية والصفقات التجارية التى تنفذها الصين فى الجوار الأسيوى لابد أن تثير لديه توجسا من التوسع الصينى الذى يضر بالنفوذ الغربي. كسينجر الذى التقى ببوتن سبع عشرة مرة، يحبذ تطوير علاقات متوازنة مع موسكو، كما يشكك فيما يتردد من اتهامات بالتدخل الروسى فى انتخابات الرئاسة الأمريكية الماضية. وعلى خلاف كسينجر الذى يرى أن تطوير العلاقات مع روسيا لاينبغى أن يكون هدفا فى حد ذاته، بل جزءا من سياسة طويلة الأمد لاحتواء القوى الإقليمية الصاعدة، يرى مستشارون قريبون من مراكز صنع القرار فى واشنطن أن الخطر الصينى داهم ولابد من مواجهته فورا. بل وبحسب ما ذكر تقرير الصحيفة، فقد نقل مصدر فى الكونجرس عن ستيفن بانون، المستشار السابق لترامب، قوله بضرورة التركيز على «التهديدات الحضارية التى تواجه أمريكا من العالم العربى والصين». وإذا كانت نظرية كسينجر لعزل الاتحاد السوفيتى قد نجحت فى مطلع السبعينيات، فهل تنجح اليوم فى عزل الصين؟ البروفسور هال براندز ، الأستاذ بجامعة جونز هوبكنز، يرى أن الظروف الآن لا تسمح بتطبيق «دبلوماسية المثلث» بسلاسة ونجاح. ففى الستينيات كاد الصراع بين بكينوموسكو أن يصل بالدولتين إلى مواجهة عسكرية، وربما نووية. أما اليوم، فالدولتان تلعبان معا فى انسجام تام بين تطوير مشترك للتكنولوجيا العسكرية والمناورات المشتركة فى عدة نقاط ساخنة، من بحر الصين الجنوبى إلى بحر البلطيق، بل وتقدم الدولتان نموذجا فى الحكم يختلف عن الديمقراطية الغربية، وله تطبيقات منتشرة من كازاخستان إلى فنزويلا. يرى براندز أن ما يجبر موسكو اليوم على التخلى عن تحالفها مع بكين، هو أن تدرك أن هذا التحالف لن يجعلها تتفوق على أمريكا. وحتى يتم حسم سباق التفوق العالمى بشكل مطلق لصالح أمريكا، فإن أى محاولات لتطبيق نظرية كسينجر فى اللحظة الراهنة لن تكون مجدية.