تقدم خطب وكلمات الرئيس مرسي مادة ثرية لتحليل رؤاه إزاء مختلف الشئون والقضايا ومعرفة فكره الحقيقي وعقائده ومدركاته. ولأن الرئيس يعتمد كثيرا علي الكلمات الشفهية, فإنها تعكس خلاصة أفكاره وقناعاته هو نفسه. ولا يقدم عدد الخطب والكلمات القليلة للرئيس حتي الآن مادة يمكن من خلالها التعرف إلي كامل تصوراته ومدركاته, أو التكهن بنوعية القرارات المتوقعة منه ساعة الأزمات, ولكنها تمثل إلي حد ما مادة كافية لتقديم قراءة أولية. فالقادة والرؤساء- ممن لديهم قدرات إلقاء الخطب والانطلاق في الساحات العامة من طائفة الرئيس مرسي- يمكن من خلال تحليل خطابه التعرف إلي الشفرة والعقيدة السياسية الخاصة به التي تمكن من التكهن بردود أفعاله إزاء قضايا الحرب والسلام. ولم يكن صعبا توقع أن يختلف خطاب الرئيس مرسي عن خطاب الرئيس السابق, والذي اتسم بالجفاف والابتسار والتكلس السياسي وبقدر من التعالي, حتي أن خطبه الأخيرة كانت خالية من أي روح أو خيال أو رؤية دافعة إلي الوحدة أو تكريس الانتماء أو دافعة إلي العمل. وتكون خطب وكلمات القادة خصوصا إذا اتسمت بالصدق والشفافية- هي الأساس في حفز شعوبهم للعمل والإنجاز والتماسك. ومن المهم للخطاب أن يتناسب مع ذاته, بأن ينطوي علي قدر عال من الرؤية والطموح المحسوب علي قدر الإمكانات والمصحوب بالإنجازات العملية, لأنه إذا اعتادت القيادة إطلاق وعود وطموحات دون إنجاز علي أرض الواقع فسوف تنتهي الصلة بين خطب الرئيس والاهتمام الشعبي بها, وستسود مجددا روح اللامبالاة. وفي الحقيقة, فإن الشعب المصري يحتاج فترة للشفاء النفسي من آثار الحقبة السابقة التي سادت فيها الأقوال دون الأفعال والأكاذيب علي الحقائق والمصلحة الأنانية علي المصالح العامة, بل أصبح الناس يتوقعون سلوكيات الرئيس السابق عبر تصور عكس ما يقوله ويتعهد به; فإذا أكد عدم التغيير الوزاري تكون إشارة إلي تغيير سريع, وإذا تعهد باستمرار دعم بعض السلع تكون إشارة إلي قرب قرار برفع الدعم عنها. وهذه السياسة رسخت حالة من الاغتراب بين الشعب والقيادة, وبثت مقدارا هائلا من انعدام الثقة والإحساس بالاستخفاف والشعور بالإهانة. والجميع يتذكر تصريحاته وخطبه بعدم المساس بالفقراء, وأنه مع محدودي الدخل, في الوقت الذي اتبعت فيه حكوماته أقسي السياسات لنهب أقوات الناس والتنكيل بالفقراء. خطاب الرئيس مرسي من نوعية مختلفة كثيرا; فهو خطاب يتميز بطغيان الجانب الروحي والقيمي علي الجانب السياسي, والمزج بين خطاب رجل الدين وخطاب رجل الدولة. وبالتأكيد, فإن ذلك أمر مفهوم, خصوصا إذا كان هذا الخطاب هو انعكاس لحالة عامة في المجتمع المصري, كما أنه مطلوب كخطاب جديد إذا كان هو الحافز الرئيسي للناس علي العمل, وهو الإطار الجديد الذي سيتم من خلاله طرح الأفكار والرؤي وحفز الناس علي تجديد الأمل وعودة الروح. ومن ثم لا استنكار علي الرئيس أن يكون له خطاب مختلف, والخطاب السياسي في النهاية لا يتشكل ولا يصاغ فقط من خلال الرئيس, وإنما تلبية لحاجات اجتماعية ونفسية, وتماه مع حالة عامة تحتاجها المجتمعات في لحظة ما. ويبدو الرئيس الآن إزاء مرحلة انتقالية في لغة الخطاب, فمن يتابعه يجد بعض التطور بين خطبه الأولي وحتي خطابه الأخير أثناء الاحتفال بليلة القدر حتي في الأداء وطريقة الإلقاء. ويمكن رصد عدد من الملامح الرئيسية للخطاب السياسي للرئيس مرسي علي النحو التالي: الملمح الأول, المزج بين الخطاب الديني والخطاب السياسي: ففي أغلب خطب وكلمات الرئيس هناك اعتماد علي لغة الدعوة التي ضمن خصائصها علو الصوت وغلبة النبرة الحماسية والعاطفية, والاستدلال بآيات قرآنية أو أحاديث نبوية أو معان مقتبسة من مواعظ دينية في التراث الإسلامي. فلا ينقسم الخطاب إلي أجزاء منفصلة ومتوقعة, وإنما هو خطاب يمزج بين الديني والدنيوي وبين الدين والدولة في كل نقطة. وقد يأتي الرئيس علي ذكر قضية ما في بداية خطابه ثم يستأنف الحديث عنها, في وسطه ونهايته, وبحسب حالة التهيؤ العامة. في خطب الرئيس السابق كان يمكن تحديد الشق السياسي الداخلي والشق الاقتصادي وشق السياسة الخارجية.. وغيرها, وضمن كل شق تحديد القضايا التفصيلية, أما في خطاب الرئيس مرسي فإنه يعتمد علي الهدف والقضية أكثر من الضبط الفني للخطاب. وإلي حد ما فإن ذلك يمثل خطاب زعيم أكثر مما هو خطاب رئيس, لكن من المهم أن يتأصل ويتأسس خطاب الدولة المتدفق بالأفكار والمعاني المبنية في جمل رشيقة وحافزة. كما من المهم أيضا أن يصقل الكلمات بأفكار ومعاني أكثر دسامة, وأن يكون كلام الرئيس(حتي عن الشأن الإسلامي) مختلفا وأسمي منطقا وأوسع فهما من أي كلام نسمعه, وليس تكرارا لكلمات واستدلالات الشيوخ, فهذه فرصة لإحسان عرض النموذج الإسلامي عبر خطاب الرئيس المصري, ومن المهم أن تتقلص مساحة الشفهي إلي جانب المكتوب. الملمح الثاني, القفز علي الواقع وعدم الإغراق فيه وفي تفاصيله: فالرئيس لا يغرق في تفاصيل الاقتصاد والأجور والأسعار ولا الموازنة العامة, ولا الصادرات والواردات, وذلك أمر مفهوم ومتصور بعد حقبة مل الناس فيها من سماع تفصيلات والإغراق في أمور تبين أنها أراجيف وأضاليل, وفي ظل ثورة تحتاج لرؤي دافعة للنهضة وخطاب سياسي جديد, وتحتاج إلي إعادة البناء في القيم الجديدة, وهو أيضا مفهوم بالنظر إلي استناد الرئيس إلي الكلمات الشفهية, وبالنظر إلي عدم اكتساب الرئيس الخبرة بعد, وبالنظر إلي تخصص الرئيس البعيد عن الاقتصاد. وفيما يبدو أن الرئيس لا يريد حصر نفسه في هذا الجانب الذي يراه من اختصاص الفنيين والتكنوقراط أكثر وأن القيادة لها اهتمامات أخري. وإلي حد كبير, فإن الإغراق في الهموم التفصيلية كان في ظل النظام السابق وسيلة لتخدير الناس عن الطموح والحلم والخيال. فمن المهم أن يعمل الخطاب علي إطلاع الناس علي الحقائق وإشراكهم في المسئولية ورفع الهمم والعزائم, وليس التكدير عليهم وإغراقهم في حالة من التيه يظلون فيها صرعي لليأس وانعدام الروح والأفق. لكن ضمن هذا السياق أيضا يلاحظ وجود قدر من الذاتية في لغة خطاب الرئيس مرسي التي تختزل مسئولية الدولة علي كاهله, من ذلك تكراره مقولات أن: الدفاع عن الوطن مسئوليتي, وأن رجال الشرطة في قلبي وبين يدي ومسئول عنهم كما القوات المسلحة أو قوله عن القوات المسلحة أرعاهم ما رعيت هذه الأمة, هذه كلها تعبيرات غير مناسبة لأن بها قدرا من الشخصانية في التعامل مع مؤسسات الدولة. الملمح الثالث, الاستدلال التاريخي: فالرئيس مرسي كثير الاستدلال بالتاريخ وبتجارب الغزو والقتال بين المسلمين وغير المسلمين, ومدخله الأساسي في فهم دور ورسالة مصر, هو مدخل مصر المحاربة التي طردت الغزاة وتركتهم صرعي علي الجبهة الشرقية, والتي تصدت للتتار والصليبيين, وبشكل عام فهي مصر الإسلامية, حتي في رؤيته للأزهر فإنه يؤكد أن علماء الأزهر كانوا قادة للمقاومة, وأن الجيش المصري ليس فقط عليه مهمة حماية الوطن بل حماية الأوطان. وهنا لا يفصل الرئيس بين جغرافيا الدولة وجغرافيا العقيدة. وتحتل حقبة وخبرة صلاح الدين الأيوبي والمعارك الصليبية نقطة مركزية في عقل الرئيس. وفي الحقيقة, فإنه من المهم عرض هذه النقطة المركزية وتخصيبها بالمعاني والمفاهيم التي أضافها العصر الحديث, وألا تنحصر بطولات النموذج الإسلامي في البطولة التاريخية للحروب, وإنما أن يتخلص من الأغلال التي تركتها بصمات مفكرين إسلاميين ضيقي الأفق, وأن يستشف آفاق نموذج إسلامي أرحب, فالحرب لم تعد هي البطولة في العالم المعاصر, وإنما تتمثل البطولة في التقدم الداخلي والإبداع الثقافي وتقديم قيم إسلامية جديدة للعالم. أن الاكتفاء بقراءة وتقسيم العالم إلي فسطاطين انتهت وثبت خطؤها, لأن الهموم البشرية واحدة, كما أن إشباع الناس بروح الحرب يمكن أن يضيف إلي اليأس إذا لم يترجم إلي روح بناء يجد صداها في قوت يومه ومعيشته, أو في خوض حرب حقيقية تتحول لنكبة ونكسة إذا لم تحسب نتائجها جيدا. ولا بد من توسيع مفاهيمنا للآيات الكريمات: وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة وفإذا عزمت فتوكل علي الله, لتعني العمل والبناء والإعداد الإنساني, وترجمة معني القوة إلي معاني تبدأ بالإنسان وتنتهي بالمحبة. فالأساس أن تظل الدول والمدن مشرقة ومزدانة بمظاهر الحضارة والعمارة لا أن تخفو وتطمس بحروب عبثية.