أسفر الخطاب النهضوي العربي الصنع العديد من الاتجاهات والتيارات التي لا تزال تقف حائرة أمام جدلية التعانق بين الديني والسياسي، وهذه الجدلية هي التي أفرزت لنا خطابات لغوية متباينة ومتنافرة يسير كل منها في اتجاه مغاير، تتلخص أغلبها في مواضعات محددة مثل التبعية والابتداع والغفوة والتأخر والتقليد، ومفاهيم الحرية والديموقراطية والشوري والعدالة الاجتماعية، وغيرها من المواضعات التي تزيد من الهوة السحيقة في اللقاء الحتمي بين الدين والسياسة. ورغم أن فكرة التنوير ليست بجديدة علي الخطاب العربي بل لها مهاد تأريخي ضارب في القدم، إلا أن معظم المنظرين العرب لا يزالون يسعون لاقتناص لحظة مقاربة بين الديني والسياسي. والحق أن هذه اللحظة قد تحققت منذ ما يزيد علي ألف سنة تقريباً، حينما مكث النبي محمد (صلي الله عليه وسلم) في المدينةالمنورة، واستطاع أن يؤسس دولة في صورتها الأولية، هذه الدولة البسيطة في أنظمتها ومؤسساتها هي التي سمحت ولأول مرة في تاريخنا العربي بالتعايش بين الديني والسياسي. وهذا ما يؤكده مؤرخو العصر الحاضر، بأنه تحقق التعايش الحتمي بين الدين والسياسة في حضارتنا العربية مع وجود خصوصية فريدة وهي أن الدين لم يسبق السياسة، والسياسة وقتها لم تسبق الدين، لذا حدث التلاحم بينهما بصورة طبيعية دون خطب أو لغط. التأسيس الأول وبينما يصطدم المعاصرون بفكرة عدم التعايش بين الديني والسياسي هذه الأيام لكثرة المصطلحات المتنافرة بين الاتجاهين، نري أن التأسيس الأول للدولة في الإسلام علي يد الرسول الكريم (صلي الله عليه وسلم) كان منوطاً بالنجاح ؛ فالبيئة العربية حينئذ كانت مهيأة تماماً لقبول كيان سياسي ذي طبيعة مغايرة غير تلك التي ألفوها وقت عبادة الأصنام، حيث القوانين عرفية تتغير وتتبدل وسط قلق مستمر من اللصوص وقطاع الطرق، وارتباط السيادة السياسية بالنفوذ الاقتصادي والتجاري مع عدم إغفال المكانة الدينية. وأكاد أجزم أن فكرة التنوير التي راح المتشدقون بها في القرن التاسع عشر الميلادي لم تكن وليدة هذا العصر، بل استطاع الإسلام وهو يؤسس كياناً سياسياً في المدينة أن يقدم مهاداً صالحاً لفكرة التعانق بين الديني والسياسي. هذا التعانق حققه القرآن الكريم بتعاليمه السامية التي تناولت حقوق العدل مثل قوله تعالي : (إن الله يأمر بالعدل) (النحل : 90) ، وقوله تعالي : (وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل) (النساء :58) . أيضاً تعاليم الإسلام التي جاءت تحض علي إعلاء مبدأ الشوري، يقول تعالي في محكم التنزيل : (وأمرهم شوري بينهم) (الشوري : 28). كما جاء القرآن الكريم بقاعدة في غاية الأهمية وهي ضابط العلاقة مع الآخر وقت السلم والحرب، يقول تعالي : (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين * إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا علي إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأؤلئك هم الظالمون) (الممتحنة :8،9) . هذا بخلاف ما أورده القرآن الكريم في ضرورة الامتثال عند تنفيذ الأحكام والقضاء بقول الله تعالي: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) (النساء 59). وامتاز الكيان المؤسسي في دولة الإسلام بالمدينة بأنه أعلي شأن العقل والعناية بالعلم والبحث، والحض علي القراءة والمعرفة تلك المبادئ التي ينادي بها السياسيون، من خلال الإشارة إلي ما جاء في القرآن الكريم من العناية بالعقل والتفكير، يقول تعالي: «ن . والقلم وما يسطرون» ( القلم 1) كما قرن الله سبحانه وتعالي أهل العلم به وملائكته، يقول تعالي: «شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائماً بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم» (آل عمران 18). والقرآن الكريم وهو دستور الكيان السياسي في هذه المرحلة دولة المدينةالمنورة جاء ليؤكد علي أهمية مناهج الاستدلال العقلي التي يتحدث عنها الخطاب النهضوي المعاصر، وهو دستور يدعو إلي التفكير والتأمل، والقرآن الكريم يحث المؤمن علي استعمال العقل إلي أقصي حد مستطاع، ويشيد بمن يستعمله، ويعمل فكره في النظر والتدبر، واستخلاص البراهين والنتائج من المعلومات التي تتوافر لديه من الأمور الدينية والدنيوية. يقول الله تعالي: «كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب» ( ص 29)، ويقول تعالي: «وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون» (العنكبوت 43) . الدين يوافق السياسة كل هذه التعاليم الدينية التي جاء بها القرآن وافقت الرؤي السياسية لدي أبناء البيئة العربية المتشوقة للحرية وإعلاء العقل، والناقمة علي الفقر والجهل والوثنية، والرق، والظلم الطائفي والتمييز القائم علي الاقتصاد، لذا من الصعوبة أن يتتبع باحث ما أية حركات مناهضة إزاء هذا الكيان الإسلامي بالمدينة، اللهم ما أثاره الكفار واليهود من قلاقل وفتن ومشكلات تتعلق بمركزهم الاقتصادي والتجاري، رغم أن الإسلام أقر قاعدة فضلي وهي الجمع بين العبادة والعمل وهي قرينة أساسية في أي كيان سياسي ناجح، حيث جاءت الدعوة إلي السعي والعمل مقرونة بالصلاة، فبعد أداء الصلاة وهي الجانب الروحي يجب علي المسلم السعي إلي عمله، وهو الجانب المادي، مما يحدث التوازن في حياة الإنسان، يقول الله تعالي: «فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله» (الجمعة 10). والمستقرئ للحظة التعانق بين الديني والسياسي يلمح أن الدستور الديني وهو القرآن الكريم استطاع أن يحقق جميع مطالب المنتمين إليه، فكما منح القرآن راحة النفس والطمأنينة للمتعبدين والقائمين والركع السجود وأنشأهم علي الطاعة والقناعة، منح الطامحون سياسياً إلي الارتقاء والصعود السياسي، ولولا هذا ما كنا قد قرأنا عن اجتماع المسلمين في سقيفة بني ساعدة لتولية خليفة رسول الله (صلي الله عليه وسلم) . ورغم هذه التجربة الرائدة في المزج بين الديني والسياسي، إلا أنه لا يزال المنظرون والسياسيون يعقدون عزمهم علي تحديد إجابة لسؤالهم الملح : من يسبق الآخر ؟ وكأن لحظة السبق تلك هي التي ستمنح فرصة الأفضلية، أو بيان الدور الريادي لكلا الظاهرتين. وتجربة الدولة في الإسلام كانت أكثر من ناجحة ظهر ذلك من خلال وفاء الخلفاء الراشدين الأربعة بعملية التعانق والمزج بين السياسي والديني دونما خلل، لذا لم نقرأ سطراً واحداً في كتب التأريخ الإسلامي منذ بداية تكوين الكيان الإسلامي السياسي بالمدينة وحتي مقتل الإمام علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) عن أي حرج سياسي مصدره الدين الإسلامي، بل كان الإسلام وقتها باعثاً قوياً ومكيناً للتمكين والاستخلاف في الأرض ومن ثم إعمارها. لكن ما غاب عن بعض المنظرين السياسيين المعاصرين ورواد الخطاب النهضوي العربي أن لحظة السياسة ينبغي لها أن تسبق لحظة الدين، فهو في نظر بعضهم يعني النزوع وراء سطوة الحداثة ورفض التراث بجملته، وهذا مخالف تماماً لطبيعة الكلمة والدلالة. إلا أن النهضة والنهضوي والاستنهاض وكل الكلمات المنحوتة من لفظة نهض لا تعني تقويض البناء القائم علي التعاليم الدينية مطلقاً، بل هي إشارة عميقة إلي هضم التراث وتناوله بالتحليل وجعله منطلقاً وقوياً للبناء والاستعلاء المستقبلي . ويصر أصحاب النهضوي المعاصر علي أن كلمة حضارة هي المرادف الطبيعي لما اتفق علي تسميته بالدولة المدنية، أو الكيانات المؤسسية علي أنها لحظة تسبق التأسيس الديني كموجه للسلوك السياسي. مستندين في ذلك علي الإرهاصات الغربية التي أنتجها الفكر هناك، ومعللين فكرة مدنية الدولة بالأحداث التي تمت في فترة محاكم التفتيش ودعاوي الهرطقة، وما لحق بعلماء الفلك والفلسفة من حرق وقتل وتدمير لآرائهم وأفكارهم ومنتجاتهم علي السواء. وفي خضم التصارع الفكري في الخطاب العربي النهضوي بين الديني والسياسي، راح يبحث أنصار كل فئة عن الدور الريادي لكل منهما، وإثبات من الأقوي في تشكيل هوية المواطن، لذا فرغ الشباب من الدين، وفرغت العقول من السياسة، لأنهم افتقروا إلي تواجد وتعايش سلمي بينهما، وصار الفرد يبحث عن رمز مطلق للسلطة الزمنية والروحية، متغافلين في ذلك تاريخية الإسلام الذي جاء بقرآنه ليتفاعل مع السياسة، لذا فالسؤال الذي طرحناه مسبقاً : هل الدين والسياسة لحظتان متعاقبتان ؟، الإجابة بالنفي فكلاهما لحظتان مترابطتان .