قد يكون ما أورده الكاتب محمود حيدر فى كتابه الدولة المستباحة نقلا عن عالم الاجتماع الفرنسى جان بودريار وهو ان حرب الخليج لم تقع رغم انها وقعت وانتهت الى ما انتهت اليه مدخلا نموذجيا لتفكيك ظاهرة ما يسمى حروب ما بعد الحداثة او الحروب الاستباقية، ويرى بودريار ان من يراقب الحرب على الشاشة يشعر انها لا توجد فى الواقع، فالتليفزيون المرآة الكونية اصبح ميدان الحروب، واوشكت الحرب الافتراضية ان تكون البديل المتلفز للحروب الواقعية، وحين نتذكر كيف كان الناس يتحلقون حول التليفزيون وهم يراقبون القصف والحرائق والمشاهد الدموية نشعر بأنهم نسوا بأن ما يرونه حدث فى الواقع ، وهو أشبه بأفلام كثيرة عن الحرب العالمية الثانية. حروب ما بعد الحداثة، تبحث عن مبرراتها وشرعيتها الدولية بعد ان تضع اوزارها، وكانت الحرب على العراق مثالا بالغ الوضوح لذلك لأن كل ما قدم من ذرائع قبل الحرب عن أسلحة الدمار الشامل اتضح انه ملفق ولا اصل له، وكانت استقالة الجنرال كولن باول الذى اعترف بالخديعة بمثابة فضيحة مزدوجة، سياسية واخلاقية . اما صفة الاستباق او الهجوم الوقائى فهى ايضا من صميم هذه السلالة من الحروب، وتعتبر حرب حزيران عام 1967 مثالا لها، حين قام الجيش الاسرائيلى بهجوم واسع على المطارات المصرية، بحجة استباق الهجوم المضاد، ويعترف اكثر من جنرال اسرائيلى بأن تسمية جيش الدفاع هى للايحاء بأن دوره يقتصر على التصدي، رغم ان الواقع يقول عكس ذلك تماما، فهو جيش مارس العدوان مئات المرات خلال اقل من ربع قرن، وغالبا ما يرد ذكر مثالين فى هذا السياق هما قصف مدرسة بحر البقر المصرية التى اصطبغت فيها الطباشير وكراريس التلاميذ بدمهم، والهجوم على قرية السموع الفلسطينية وتدمير منازلها اضافة الى قتل عدد من اهلها العزّل. ان ما يسمى حروب الانترنت او الحروب الافتراضية يندرج فى هذه الخانة تماما كتوظيف الصورة بشكل انتقائى او اللجوء الى الكولاج ومهارات التلفيق لتضليل الرأى العام، ورغم ان استخدام قنابل ذرية كالتى اطلقت على هيروشيما وناجازاكى يقع تاريخيا فى حقبة الحروب التقليدية فإنه عينات من حروب ما بعد الحداثة ليس فقط بما احدثه من دمار وتشويه وافساد للبيئة، بل من خلال دفع البراغماتية الى اقصاها، وانتهاك كل الخطوط الحمر، والحرب الباردة هى ايضا نموذج لحرب يحكمها توازن الرعب، فهى باردة لأنها لا تقع بالفعل، رغم ان فيها منتصرين ومهزومين ولها غنائمها ايضا، وعودة موسكو مجددا الى المسرح الدولى كقطب آخر رأى فيها البعض عودة للحرب الباردة لكن بصيغة اخرى، وان كان القاسم المشترك بين الحرب الباردة التى انتهت فى نهاية القرن الماضى وهذه الحرب التى اصبحت الأزمة السورية مسرحها هو ايضا توازن رعب، فالتلاسن الدبلوماسى بين واشنطنوموسكو سرعان ما يرتطم بسقف فولاذى وتعود العاصمتان الى الحوار الدبلوماسي، مما افرز ما يمكن تسميته الحروب البديلة ذات البُعد الرمزى، والتى اسلحتها وادواتها اقتصادية او سياسية قائمة على التجاذب والاستقطاب واشهار الفيتو. والفيتو بحدّ ذاته شكل آخر من اشكال حروب ما بعد الحداثة لأنه فى الاساس تعبير عن استحقاقات القوة، والدول الخمس التى تمتلك حق النقض هى الرابحة فى الحرب العالمية الثانية، لهذا نادرا ما استخدم هذا الحق لإنصاف قضايا عادلة او للحدّ من تفاقم ازمات قابلة للانفجار ،ذلك ببساطة لأن الفيتو من غنائم المنتصرين فى تلك الحرب. ان حقبة ما بعد الحداثة والتى توصف احيانا بأنها حقبة ما بعد التاريخ تبعا لاطروحة فوكوياما عن نهاية التاريخ افرزت منظومة من المفاهيم مضادة بشكل او بآخر للتاريخ الكلاسيكي، ومنها للمثال مفهوم السيادة الوطنية، فقد انتهكت سيادة العديد من الدول بذريعة الديمقراطية والدفاع عن حقوق الانسان، واتضح بعد ذلك ان الاهداف الحقيقية ليست هى الاهداف المعلنة، وان كل ما جرى فى البلدان التى استبيحت سيادتها هو استعمار من طراز جديد يحل فيه الوجود السياسى والاقتصادى مكان الوجود العسكرى المباشر وحين عيّن بريمر حاكما مدنيا للعراق بعد احتلاله كان ذلك التعيين نموذجا لما اخترعه الاستعمار الجديد من مكائد اذ كيف يقدم حاكم مدنى لمجرد تسلم منصبه على حل الجيش العراقى العريق، ثم كيف يحمل النزاع الطائفى مسئولية ما جرى فى العراق وهو الذى اتقن العزف على الوتر الطائفى. وهنا يجب التذكير بالموسوعة الخاصة بالاقليات التى صدرت بامريكا فى تسعينيات القرن الماضى وكانت بمثابة تمهيد ودوزنة سبقت العزف على هذا الوتر ، ولحروب ما بعد الحداثة او الحروب الاستباقية التى تسعى احيانا الى اجهاض قوة الخصم ادبيات وثقافة تتولاها الميديا المؤدلجة والتى تقدم الواقع على غير ما هو عليه، لأنها انتقائية وتسلط الاضاءة على مشاهد معينة وتحجبها عن مشاهد اخرى وذلك انسجاما مع استراتيجيات ذات معايير مزدوجة، ومن اللافت بالفعل ان الولاياتالمتحدة التى تستبيح سيادة دول وتحتلها وتعيدها الى القرن التاسع عشر حسب تعبير الجنرال شوارتسكوف تشيح ببصرها عن دول ثيوقراطية واتوقراطية ، لا علاقة لها بالديمقراطية، او الوصفة الليبرالية المعدة للتصدير على الدبابات والطائرات وليس من خلال قوة ثقافية ناعمة . وغالبا ما يتذكر الناس شاهات وبينوشيهات آسيا وامريكا اللاتينية فى القرن الماضى وكيف انحازت الولاياتالمتحدة لهؤلاء قبل ان يفقدهم التاريخ الصلاحية للاستمرار، وما حدث لبينوشيه تكرر مع شاه ايران الذى قلبت له واشنطن ظهر المجن ولم يجد مكانا يدفن فيه الا مصر، لأنه اتخذ موقفا قال الرئيس الراحل السادات انه الجميل الذى لا بد من الاعتراف به حين أعاد عرض البحر ناقلات نفط الى الموانى المصرية فى لحظة حرجة. وبالعودة الى ما قاله عالم الاجتماع الفرنسى بودريار عن الحروب المتلفزة والتى تقع على الشاشات ، فان هذا بحد ذاته توصيف دقيق لدور الميديا وما تمارسه من تلاعب بالعقول ، فهى تقدم واقعا بديلا وكأن الحروب التى يتجاوز عدد ضحاياها الملايين بين قتلى ومشردين مباريات رياضية اسبارطية لكن بالذخيرة الحية. لمزيد من مقالات خيرى منصور