قد يوحى هذا العنوان بأن هناك مقابل الميديا المؤدلجة ميديا محررة من اى انحياز او ليبرالية خالية من شوائب الارتهان لهذه الدولة او تلك، والحقيقة ان مثل هذه الميديا تبقى حلما عسير الترجمة الى واقع، لكن هناك على الاقل ميديا تحاول قدر المستطاع ان تحافظ على حدّ ادنى من الصدقية، كى لا تفقد نفوذها وجاذبيتها للرأى العام، والميديا المؤدلجة رغم ما يبدو لها من انياب هى فى الحقيقة داجنة، وفاقدة للقدرة على المغامرة والكشف لأنها ببساطة مُقيدة بمنظومة من المفاهيم والقيم التى يرى دعاتها والمبشرون بها انها الحقيقة وهذا هو سبب الاصابة بالاحتكار ووهم المعصومية، والوجه الاخر لهذه الاصابة هو الانكار عندما يتعلق الامر بما يخص الاخرين وهم على الارجح خصوم او اشباه خصوم . وقبل هذا الانفجار الفضائى كانت الصحافة هى المجال الحيوى لنمط من الاعلام المتشرنق داخل ايديولوجيا تتلخص فى مقولة تقليدية اسبارطية هى نفّذ ثم نفّذ اما المناقشة فهى محظورة ومن خارج هذا المدار المغلق، وقد اتاح الفضاء الذى يزدحم الان بالاف القنوات للايديولوجيا ان تحلّق فيه لكن بأجنحة من شمع شأن ذلك البطل الاسطورى عند الاغريق القدماء وهو ايكاروس الذى حلّق بأجنحة من شمع، لكن سرعان ما ذابت عندما اشرقت الشمس وسقط مضرجا بدمه ! وبفضل الميديا المؤدلجة تحولت فضائيات الى ما يشبه غرف العمليات العسكرية واصبحت طرفا صارخا وصاخبا بحيث يسهل على المشاهد ان يحذر كل ما سيصدر عنها قبل أوان صدوره لأنها ترتهن لموقف أحادى البعد يريد من العالم كله ان يتأقلم معه، ويتحول الى صدى له . ومنذ وضعت منجزات العلوم الانسانية فى خدمة الميديا، وبالتحديد علم النفس اصبح هناك حروب من طراز جديد سميت قبل عقود الحرب النفسية، وهى الان تحمل اسماء جديدة ذات صلة بتعاقب الاجيال، لكن الحرب النفسية ليست على غرار تلك التى كان جوبلز النازى مثالها ثم تحول بعد سقوط النازية الى امثولتها، بحيث تتأسس على تكرار الكذب، وليست ايضا من طراز ما تصوره ونستون تشرتشل فى الحرب العالمية الثانية حين قال ان الحقيقة تحتاج الى جيش او حشد من الاكاذيب لحراستها، فالحقيقة يمكن اخفاؤها الى حين، لكن لا يمكن لأحد مهما بلغ من القوة ان يخترعها. لكن صلاحية هذا الوهم محدودة وسرعان ما ينقشع الضباب ليظهر الواقع كما هو عليه وعلى حقيقته، وفى هذه الحالة تصبح الهزيمة التى تم انكارها مزدوجة لأنها صادمة بعكس الهزيمة التى تعلن بشجاعة، فهى تتحول الى رافعة كما حدث فى العديد من البلدان منها اليابان وروسيا! وللمفارقة، فقد حدث اثناء محاولتى استذكار امثلة معاصرة عن الميديا المؤدلجة ان اعلن فى مصر وبالتحديد عن وزارة الداخلية عن ضبط اشخاص فى منطقة قنال السويس اصطادوا اطفالا ابرياء وحاولوا تلفيق فيديوهات دموية بحيث تنسب الى ما يجرى فى مدينة حلب السورية، وهذا بحد ذاته مثال طازج يفتضح مسلسلا طويلا من الدراما المُصنّعة والمدفوعة الاجر حول ما حدث ويحدث الان فى عالمنا العربى بالتحديد. ولو عدنا قليلا بضع سنوات الى الوراء لوجدنا ان هذه الصناعة قد ازدهرت لاحلال مشاهد مكان اخرى، ومثل هذا التزوير ليس باهظ التكلفة ماديا او حتى فنيا، إذ يكفى ان تتوفر للمشهد واجهة بيت مهدم او شاطىء نهر كى تكون الخلفية قابلة للاستخدام المتكرر، وفى حروب الخليح الثلاث التى بدأت قبل اكثر من ثلاثة عقود ولم تضع اوزارها حتى اليوم مورست هذه الصناعة لكن بمهارة هوليوودية، وللمثال فقط نذكر المؤتمر الصحفى الذى قدم فيه الجنرال كولن باول مشهد الشاحنات عراقية محملة بأسلحة دمار شامل، ثم كانت الفضيحة التى استقال الجنرال باول بسببها واعترف بكل ما جرى من التلفيق، وما قدمته الميديا الغربية والامريكية بالتحديد فى حربها على افغانستان والعراق، كان يعج بمشاهد ملفّقة استخدمت فيها احدث التقنيات لأن تلك الميديا مؤدلجة حتى النخاع وحمولتها من افرازات اليمين المتطرف فاحت رائحتها وزكمت الانوف ! وما سماه اكثر من كاتب ومثقف امريكى التلاعب بالعقول ، كان التعبير الادق عن دور الميديا المؤدلجة فى اعادة انتاج الواقع، وهذا ما يقوله تشومسكى بوضوح عن الاعلام المؤدلج والمسيّس والمرتهن فى امريكا، وهو ايضا ما قاله الن غريش فى مقالته عن برنارد ليفى تحت عنوان ليفى ليس فيكتور هوجو! واذا كان العالم العربى الان يئن من سطوة الميديا المؤدلجة التى لا ترى غير ما تريد ولا تسمع غير صدى صوتها فإن الغرب كان سباقا ورائدا فى هذا الميدان، لأن الاصولية اختراع غربى بامتياز كما قال روجيه غارودى فى كتاب مكرس لهذا الاستنتاج !. وهنا اتذكر ما كانت تنشره الصحف البريطانية والامريكية عن الصراع العربى الاسرائيلى فى ستينات القرن الماضى وان كنت اكتفى بما نشرته صحيفة الديلى نيوز قبل حرب حزيران بأقل من شهر، وفى آخر مؤتمر صحفى للزعيم عبد الناصر قبيل الحرب ببضعة ايام، توجه صحفى من الديلى نيوز بسؤال خبيث لعبد الناصر جاء فيه انه كان فى العدوان الثلاثى عام 1956 اصغر بعشر سنوات من حيث العمر ولم تكن الولاياتالمتحدة قد بلغت هذا الحد من الانحياز ضده، وكانت اجابة عبد الناصر بالحرف الواحد : انا لم ابلغ الخمسين من العمر، وما زلت شابا، وانا منذ اعوام اقرأ الديلى نيوز وحين لا تكتب ضدى وضد بلادى اراجع نفسى لعلّى اخطأت بموقف ما، ثم اضاف الى اجابته جملته الشهيرة الخالدة وهى ( ابلغ صحيفتك وانجلترا معا بأننى لست خرِعا كالمستر ايدن رئيس الوزراء الذى انهار بعد عدوان 1956) . كان عبدالناصر يدرك بعمق دور الميديا المؤدلجة، والتى تخوض حربها بأسلحة قد تبدو ناعمة لكنها منقّعة فى السموم، وتسعى الى تضليل الرأى العام تمهيدا لقرارات سياسية او عسكرية لها عواقب وخيمة . ان للميديا المؤدلجة والداجنة فى مفاهيم انهى التاريخ صلاحيتها اساليب فى الاضاءة والتعتيم والاضافة والحذف، فهى تحول بسبب فائض الاوهام العالم الى مرايا لا ترى فيها غير وجهها لهذا فإن الانكار هو الاحتياطى الاستراتيجى الذى تستدعيه اذا فشلت فى حجب الامر الواقع، ويمكن لأى مشاهد ان يرصد فضائيات مؤدلجة ليجد انها لا تقدم من البانوراما الكونية كلها سوى ما يماثل فصيلة دمها او حبرها لهذا سرعان ما ينصرف عنها المشاهد لمعرفته مسبقا بكل ما سوف تقول !! لمزيد من مقالات خيرى منصور;