تنسب مقولة الغزارة والسوء قدر تعلقها بثنائية الانتاج والتوزيع الى برنارد شو، حين شبّه باسلوبه الساخر النظام الرأسمالي بصلعته ولحيته الغزيرة وهو المعروف بميوله الاشتراكية لكن على طريقة الفابية نسبة الى الجنرال فابيوس الذي رأى ان التراجع خطوة في بعض الاحيان قد يكون بمثابة التخطيط للتقدم خطوتين الى الامام، لكن ما يعنينا من مقولة برنارد شو في هذا السياق لا علاقة له بالاقتصاد على نحو مباشر، ولا بصلعة الرجل ولحيته البيضاء، انها غزارة الانتاج الفضائية وفائض الفضائيات الذي بدأت تنوء بحمولته الاقمار، فالفضائيات من حيث العدد اصبحت عصية على اذكى الحواسيب وتصنيفها ما يزال غير دقيق، بين ما هو معرفي وسياسي واقتصادي وفنّي اضافة الى الميديا المؤدلجة والمدججة باليقين الذي يؤدي الى الوهم باحتكار الحقائق، مقابل اقصاء الخصوم، فالفضاء كان قبل ثلاثة عقود وعدا بتحرير الميديا من جاذبية الارض وما عليها من نظم سياسية، وتفاءل به من رأوا انه سوف يجترح آفاقا جديدة، لكن سرعان ما خيّب الفضاء ظنّ هؤلاء، لأن عدوى الاعلام الارضي بلغت اقصى الفضاء من خلال فايروسات رشيقة وسريعة التأقلم، تماما كما ان سلالة الانترنت تحولت الى سلاح ذي حدّين، فمن جهة تم تطوير النميمة ووضع التكنولوجيا في خدمة الميثولوجيا ومن جهة اخرى تضاءلت حصة المعرفة لصالح التلاعب العبثي، بحيث لم يعد الوقت من ذهب او حتى من نحاس، والقاسم المشترك الوحيد بين آلاف الفضائيات هو عبارة فاصل ونعود وذلك لأسباب اعلانية مما أدى الى حذف الفارق بين الاعلام والاعلان وكأن ما بينهما هو مجرد خطأ مطبعي، وما كتب عن الاعلان وتداعياته السايكولوجية كثير جدا، ومنه اطروحات اكاديمية بمعظم اللغات، لكن اهم ما قيل في هذا السياق هو الربط البافلوفي بين الاعلان والمشاهد وتجليات نظرية عالم النفس بافلوف لم تتوقف عند الفلسفة الاعلانية بل تخطّتها الى السياسة والفنون ما دام هناك رنين اجراس يقترن بوجبة شهية ولعاب يسيل. ولكي لا نبقى في نطاق التعميم والتجريد معا، تعالوا نتأمل عددا من البرامج الحوارية، بدءا من التي تحاكي صراع الديكة حتى التي تحاول ان تدخل قطيع فيلة من ثقب ابرة، بحيث يبدو المذيع كما لو انه موسوعة تقف على قدمين، يعرف في الاقتصاد والسياسة والادب والعلم، ولا يتردد في محاورة كاتب حائز على جائزة نوبل دون ان يقرأ له صفحة واحدة، وكأن المقصود بالفضاء هو التحليق بلا حدود خارج مدار الجاذبيات كلها . وقد ادى ذلك الى تسطيح المعرفة وتدجين الوعي بحيث يتبنى بعض المشاهدين الابرياء الآراء التي سمعوها في آخر برنامج اتيحت لهم مشاهدته . واذا كان نقاد السينما قد رصدوا في افلام الابيض والاسود اخطاء تاريخية فادحة وفاضحة منها مثلا ان فارسا من الجاهلية تزين معصمه ساعة سويسرية او امرأة من ثلاثينيات القرن الماضي ترتدي ثيابا لم تكن معروفة في زمنها ، اضافة الى اخطاء اكثر جذرية لها صلة بالتقاويم والاسماء والوقائع، فإن من يرصد الفضائيات او عينات منها على الاقل في برامجها الحوارية قد يؤلف مجلدا عن الاخطاء المتبادلة بين المحاور وضيوفه، ولأنني اميل في هذه الحالات الى الاستشهاد بنماذج جيدة لعلها تطرد العملات الرديئة بمرور الوقت، فسأذكر مثالا قدمته فضائية عربية كان المحاور فيه طبيبا مثقفا هو د . خالد منتصر، ففي احدى الحلقات كان ضيفه فنانا مثقفا هو د . عادل السيوي، وفي حلقة اخرى كان ضيفه الشاعر الرائد احمد عبد المعطي حجازي، ما دفعني الى اختيار هذا المثال هو التكافؤ بين السؤال والجواب، وقدرة المحاور على الكشف عن طبقات غير مرئية بالنسبة للمشاهد العادي عن الفن التشكيلي والشعر، وازعم ان معظم من سمعوا عن لوحة الجورنيكا الشهيرة لبيكاسو والتي اوشكت ان تنافسه لتكون اشهر منه، لم يكونوا على علم بتلك التفاصيل والتداعيات والتأويلات التي قدمتها الحلقة، وتكرر ذلك مع الشاعر حجازي الذي دافع عن الشعر كما عرفته البشرية عبر عصورها ضد موجات الاحتلال الاستيطاني التي استباحت الشعر وافترت عليه، وذكرني هذا المثال ببرامج حوارية تعلم منها جيلنا في ستينات القرن الماضي، ومنها ما كانت تقدمه الاعلامية ليلى رستم بجدية وعمق ودونما استعراض نرجسي، سواء مع العقاد او طه حسين او غيرهما من سادة التعبير في ذلك العقد الفريد . بالمقابل نشاهد احيانا مذيعة او مذيعا لا يعرف الفرق بين اسم نوع من الصابون او اسم كاتب او جنرال مثل كامي او شوارتسكوف، لكنهما لا يترددان على الاطلاق في استضافة عالم انثروبولوجيا او عالم في الفيزياء ويسألانه الاسئلة ذاتها التي تُسأل لكومبارس في السينما او للاعب من الهواة . انها غزارة في الانتاج يقابلها سوء في التوزيع، واحيانا تكون الكثرة قلة اذا احتكمنا الى معيار كيفي، فالمسألة ليست كما يقول مثل مصري في عدد الليمون . ان نفوذ الميديا البافلوفية في عصر تم فيه تسليع المرأة وتقزيم الرجل تحولت الحياة برمّتها الى حفلة تنكرية وأدى هذا التجريف للوعي الى تغريب الانسان ليس عن واقعه فقط بل عن ذاته ايضا، لهذا فهو مُستلب وتائه بلا بوصلة . في ستينات القرن الماضي وربما قبلها بأعوام كانت اذاعة عربية واحدة تجمع شمل العرب، وشاهدت في طفولتي فلاحين في قرى بلاد الشام يحملون الراديو الترانزيستور في الحقول كي لا تفوتهم الاخبار والبرامج، كان اسمها صوت العرب وكانت بالفعل كذلك، ولو قارنا اليوم نفوذها في تلك الفترة بنفوذ الف فضائية بافلوفية في هذه الايام لكانت المقارنة لصالحها ! لكن المتوالية الفضائية على هذا النحو الاميبي يبدو انها ستواصل مهمتها في التّغريب كي لا نقول التجهيل ذلك لأن الجهل البرىء أسلم من وعي زائف !! ان للتخلف فقها عجيبا من حيث قدرته على تحويل النافع الى ضارّ والنعمة الى نقمة, والفضاء ليس الامثولة الوحيدة في هذا الفقه، لأنه شمل مجالات حياتنا كلها بدءا من رغيف الضرورة حتى وردة الحرية . لمزيد من مقالات خيرى منصور