قبل ان يقترن الاقتصاد كعلم بالسياسة كان هناك اقتصاد سياسى يمارس نفوذه على صعيد العلاقات الدولية، فمن يكتشف جاذبية الأرض كالعالم نيوتن ليس مخترعا لهذه الجاذبية وكذلك من اكتشف دوران الأرض فهو ليس الذى كوّرها وأدارها، وقد نجد اليوم من يقترح مصطلح الاقتصاد السياحى على غرار الاقتصاد السياسي، لكنه عندئذ سيحذف بعدا فاعلا ومهما هو ان السياحة فى الصميم من الحراكين السياسى والاقتصادي، اضافة الى بُعد آخر نادرا ما يرد اسمه صراحة وهو الامن السياحى. لكن ما اعنيه بالعلاقة الجدلية والمتحركة سلبيا او ايجابيا بين السياسة والسياحة يتخطى هذه القرابة بين الحروف، فالسياحة وثيقة الصلة بنظم الحكم على امتداد التاريخ، ولو راجعنا قوائم السياحة واعداد السائحين فى بلدان كانت تحكمها نظم شمولية وتعيش خلف جدران حديدية لوجدنا انها فقيرة من حيث العدد والعائد معا، ففى بكين مثلا، حيث كانت المدائن المحرّمة التى عاش فيها الامبراطور الاخير مغلقة كان ذلك سببا كافيا لخفض عدد الحالمين بالسياحة فى الصين، وحين قدمت حياة الامبراطور الصينى الاخير فى فيلم سينمائى شهير، تدفق عدد كبير من الاجانب لمشاهدة ذلك المكان الذى كان موصدا عن كثب، وهذا ما حدث ايضا فى روسيا بعد البروستريكا وفتح ابواب الكنائس واتاحة ممارسة الطقوس الدينية، هذا بالرغم من ان المفارقة فى الحالتين وفى البلدين كما شاهدتها بأم العين هى ان طوابير الصينيين وكذلك الروس كانت تصل الى اكثر من كيلومتر امام مطاعم ماكدونالد التى افتتحت حديثا، بينما تصل طوابير الاجانب امام سور الصين فى بكين او الكرملين وشارع ارباط فى موسكو الى كيلومترين. فثمة من كان يحلم بالكافيار مقابل من كان يحلم بالبرغر ووجبات الجانك فود، لأن الانسان يبحث عما ينقصه او يتوهم بأنه ينقصه وهذا ما يفسر لنا سيلان اللعاب فى دول اشتراكية على الجينز والسجائر الامريكية، ومساحيق التجميل، ولنا فى العالم العربى تجارب من هذا الطراز خصوصا فى الاقطار ذات الاقتصاد المقنن وتجارب مثل القطاع العام والتسيير الذاتي. ان الربط الميكانيكى بين الأمن والسياحة رغم اهميته ليس دقيقا، خصوصا اذا تم عزله عن المناخات السياسة السّائدة فى هذا البلد او ذاك من العالم ، وقد مرّت النظم التوتالية او ما تسمى بالشمولية فى العالم بمراحل من الاستقرار، لكنه كان اقرب الى الاستنقاع بسبب الخمول الناجم عن حكم حديدي، ولم تنتفع تلك الدول من السياحة لأنها لا تعيش فقط فى الاستقرار تماما كما ان الانسان لا يعيش بالخبز وحده ! ولو اخذنا السياحة فى مصر نموذجا، فإن هناك ما سقط سهوا عن قصد فى معظم المقاربات المتعلقة بهذه الاشكالية، لأن التعامل الاعلامى مع السّياحة فى مصر تحديدا يخضع لاستراتيجيات تنطلق من تصور خاطئ، هو ان مصر تعيش من السياحة، تماما كما قيل ذات يوم انها تعيش من السينما او قناة السويس او زراعة القطن، ان هذه روافد بالغة الاهمية فى الاقتصاد المصري، لكنها ليست الاقانيم الثلاثة المقدّسة لهذا الاقتصاد، والبلد الذى يزرع ويصنع وله باع فى هذا المجال تعطّل لبعض الوقت ولأسباب باتت معروفة لكنه اذا وجد ترميما لأدواته واستئنافا لمشروعه النهضوى سوف يتجاوز القطيعة التى استمرت بضعة عقود. ان بلدا يعيش سكانه على سبعة بالمائة فقط من ارضه، ويمتلك موقعا فريدا اطلق عليه عالم الجيوبولتيك الراحل د . جمال حمدان عبقرية المكان له نصيب ايضا من عبقرية الزمان، ففى مصر ما يقارب ثلث الموروث الحضارى لهذا الكوكب، والخاسر من لا يزورها، وليست هي، وقد نشرت مقالات عديدة مؤخرا فى صحف بمختلف اللغات تراهن على ان كل ما يحدث من ارهاب فى مصر خصوصا ما يستهدف السياحة ليس اكثر من جملة معترضة فى كتاب الموتى.. لأن القارئ الاجنبى وبمختلف اللغات يعرف شامبليون وما فككه من طلاسم، ولا بد انه قرأ ادوارد لين وفلوبير وبرستيد وشاتوبريان ولورانس داريل وآخرين أمدوا الغرب بمعلومات ومناخات عن مصر، قد لا تكون كلها دقيقة لكنها تجمع على ان مصر لا تقبل التهميش السياسى والثقافى والسياحى كما لا تقبل التهشيم على صعيد دولة عمرها سبعة آلاف عام. التهويل الذى تمارسه الميديا المدججة والمتربصة بمصر هو ما يجعل البلاد والعباد رهائن للسياحة واعداد من يزورون مصر، فالحروب الان خصوصا ما يسمى حرب الجيل الرابع لا تسقط السياحة من حساباتها، والقول بأن انحسار الرافد السياحى عن مصر سيؤدى الى انيميا اقتصادية به الكثير من سوء النيّة والفهم معا، وبإمكان تسعين مليون مصرى ان يعوّضوا الكثير فى السياحة المحلية اذا قرروا، والأرجح انهم سيفعلون ذلك، لأن لديهم فى هذه الآونة بالتحديد تجربة رائدة وفذّة فى تمويل قناة السويس الجديدة، ومن قرر التأميم وهو على دراية بأن القاهرة ومدن القناة الثلاث وسائر مصر ستكون فى مهب القصف الثلاثى عام 1956 يدرك ان اتخاذ القرارات الوطنية المستقلة ليس بحاجة الى بوليصة تأمين دولية او اقليمية. وقبل ستة عقود تعرضت مصر لحرب اعلامية ساهمت فيها معظم دول الغرب الكولونيالى وكانت الديلى نيوز البريطانية تنشر مقالات وكاريكاتورا تحول مصر الى جحيم، لكن السياحة لم تنقطع، لأن غير المصريين احوج الى الدراية بآثار مصر من أهلها، ولدينا عيّنة طازجة بعد سقوط الطائرة الروسية فى سماء سيناء هى عصيان اعداد من السيّاح على تعاليم بلدانهم واصرارهم على مواصلة الرحلة، اذكر قبل اكثر من سبعة اعوام ان سمكة قرش ألحقت أذى بسائح اجنبى بمياه مصرية، وحين تولى الاعلام المضاد لكل ما هو مصرى تصوير مصر كلها كما لو انها سمكة قرش لم يغيّر هذا التهويل المتعمّد من المشهد السياحى! ان اختزال مصر اقتصاديا الى قطن او سينما او سياحة هو المرادف لاختزالها سياسيا، فالأوطان لا تُعامل بهذه الأساليب كما لو انها بورصات تتجه اسهم بوصلاتها عند الأرقام فقط. وهناك عبء قومى يقع على العرب بحيث يحررون أنفسهم من سطوة مسلسلات الحرملك والشاطر مهند البديل للشاطر حسن التى تحولت الى ندّاهات ويتوجهون الى مصر، لأنهم مدينون لها بما تعلّموا وبأمنهم القومى ايضا، لأنها الرافعة التى اجتذبت النخب العربية منذ القرن التاسع عشر ودفعت ثمن التنوير والتطوير واخيرا التثوير فى يوليو عام 1952. لنعترف بجدوى السياحة وحصّتها فى الاقتصاد المصري، لكن دونما مبالغة توقعنا فى الفخّ الذى يوحى من نصبوه بأن مصر معلّقة بخيط الى اهرامها او اطلال صعيدها!! ومن استطاعوا حماية متاحفهم من السّلب وتبعثر الاحشاء على الأرصفة ونجوا من ربيع برنارد ليفى سيطرق السائحون ابوابهم فى كل اوان!! لمزيد من مقالات خيرى منصور