لابد من الاحتفاء بالخطاب الذى ألقاه الرئيس فى مجلس النواب عقب أدائه اليمين الدستورية أمام المجلس. ومصدر الاحتفاء أن الخطاب تضمن رؤية من شأن تنفيذها أن تحقق نقلة نوعية فى المعركة الدائرة حالياً على أرض الوطن والتى أطلق عليها الرئيس تسمية «معركة البقاء والبناء»، وهى تسمية تشير إلى جسامة التحديات التى واجهتها مصر فى سياق التطورات التى زيفت إرادة الشعب المصرى كما عبرت عنها ثورة يناير العظيمة فتسلم زمام القيادة فيها إلى حين من لا ينتمى إليها بل من يقف على النقيض من أهدافها ومبادئها إلى أن انتفض الشعب المصرى بدعم قواته المسلحة التى كان دورها المنحاز للوطن والشعب دائماً وساماً على صدرها عبر التاريخ المصري، ولقد أحسن الرئيس صنعاً عندما عدد أركان الانتصار الذى حدث على سارقى الثورة فبدأ بالشعب المصرى العظيم «ضمانة الانتصار والعبور نحو المستقبل» منوهاً فى غير موضع بتماسك كتلته الوطنية الحية والفاعلة، وهو مصدر للقوة المصرية يجب أن نعتز به دائماً ونفخر ونعض عليه بالنواجذ ونحن نرى شعوباً ومجتمعات فى جوارنا العربى تئن قبل أى شيء من تمزقها الداخلى إن وفق خطوط عرقية أو دينية أو طائفية، وفى هذا السياق جاء تنويه الرئيس بما سماه «لوحة الوطن رائعة الجمال والكمال» وقد ازدانت بالأزهر الشريف والكنيسة المصرية العريقة، ولم ينس الرئيس أن يخص قوة مصر الصلبة متمثلة فى جيشها العظيم وشرطتها الباسلة التى تحمى هذه السبيكة الوطنية النفيسة كما لم تفته الإشادة بدور المرأة المصرية «ومعها كل أفراد الأسرة شباباً وشيوخاً وأطفالاً». لم يكتف الرئيس فى خطابه بالإشارة إلى أركان ما تحقق فى «معركة البقاء والبناء» فى السنوات السابقة وإنما قدم رؤية تتخطى الإنجازات التى تحققت إلى طموحات المستقبل، وهى طموحات يُظهر استعراض ما ورد منها فى الخطاب أنها سوف تحاول استكمال تجربة البناء وإحاطتها بسياج معنوى قوى من شأنه أن يحميها إن أُحسن بناؤه، ولنبدأ بما ذكره عن «الحلم الوطنى» لمصر «دولة حديثة تقوم على أسس الحرية والديمقراطية وتستعيد مكانتها اللائقة بين الأمم إقليمياً ودولياً بعد أن عانت محاولات للنيل من هذه المكانة وتراجع دورها نتيجة لعوامل داخلية وخارجية وهو الأمر الذى ترفضه ثوابت التاريخ والجغرافيا«، وهى إشارة مهمة لكل من يتصور أن بناء الوطن يمكن أن يتواصل نجاحه دون حرية وديمقراطية حقيقيتين وكذلك لكل من لا يزال مصراً على ترديد مقولات إما ساذجة أو مغرضة عن ضرورة «الانكفاء على الذات» من أجل البناء، فلا بناء يكتمل دون انخراط نشط مع المحيط الخارجي، كما أن وزن مصر لا يسمح لها بالعزلة أصلا، لأنها إن فعلت سوف تكون الجائزة الكبرى التى يتهافت عليها جميع الطامعين ويتصارعون، ومن الجدير بالذكر أن السياسة المصرية فى سنوات الولاية الأولى رغم صعوبة الظروف وتعقدها ووطأة القيود الخارجية قدمت نموذجاً يُحتذى فى السياسة الخارجية حقق الحد الأقصى الممكن من استقلال السياسة المصرية تجاه قضايا بالغة الحساسية اختلفت هذه السياسة فيها غير مرة مع سياسات دول شقيقة وصديقة كما بدا واضحاً من السياسة المصرية تجاه الصراعات الدائرة فى عدد من الدول العربية، حيث كانت بوصلة هذه السياسة فيها شديدة الوضوح لا تأبه إلا للمصالح المصرية ورؤيتها للمصلحة العربية. غير أن ما يستحق احتفاءً أكثر فى خطاب الرئيس هو حديثة عن «بناء معنوى» طموح للشعب المصري، فإذا كانت المرحلة السابقة قد تميزت بالمعارك الضارية ضد الإرهاب ومحاولات إسقاط الدولة فإن ما تحقق فى هذه المعارك يسمح لنا الآن بالانطلاق فى تشييد هذا البناء المعنوى الذى قام فى خطاب الرئيس على ركنين بالغى الأهمية، أولهما وضع «بناء الإنسان المصرى» على رأس أولويات الدولة، ويلاحظ هنا أنه لم يقل أن بناء الإنسان سيكون «ضمن الأولويات» وإنما على رأسها، ويلاحظ ثانياً أنه تحدث عن بناء يتم «على أساس شامل ومتكامل بدنياً وعقلياً وثقافياً» وأنه ربط هذا بما سماه إعادة تعريف الهوية المصرية «بعد محاولات العبث بها»، وأحسب أن المقصود بذلك هو تأكيد المقومات الأصيلة لهويتنا الوطنية الراسخة بعد أن تعرضت بالفعل لمحاولات تشويه متعمد من قوى وظفت الدين لخدمة أهدافها السياسية، ومن الأهمية بمكان الإشارة إلى الملفات الثلاثة التى ذكر الرئيس أنها ستكون فى مقدمة اهتماماته وهى التعليم والصحة والثقافة، ولنتخيل ما الذى يمكن أن يعنيه النجاح فى هذه الملفات من بناء إنسان صحيح البدن متميز التعليم والثقافة سوف يكون هو الأساس لأى تقدم حقيقى يتم على أرض مصر ناهيك بأن تمتع الإنسان المصرى بالخدمات اللائقة والكافية فى مجالى التعليم والصحة وفق نظم كفؤة فاعلة سوف يزيح عن كاهل الأسرالمصرية الفقيرة والمتوسطة أعباءً جسيمة تقصم ظهرها كى توفر لأبنائها هذه الخدمات، أما الركن الثانى للبناء المعنوى الذى ورد الحلم به فى خطاب الرئيس فهو «تحقيق تنمية سياسية حقيقية» بجانب ما تحقق من تنمية اقتصادية، وهى تنمية تقوم وفقاً لكلمات الرئيس على «قبول الآخر وإيجاد مساحات مشتركة» لن يُستثنى منها إلا من اختار العنف والإرهاب والفكر المتطرف، وهو ما يفتح الباب للأمل فى حوارات حقيقية تدور فى المجتمع حول قضاياه وخياراته بشأنها، وقد يتصور البعض أن هذه الحوارات ستكون سياسية فقط وهو تصور قاصر بالتأكيد، لأن الحوار حول القضايا الاقتصادية والاجتماعية لا يقل أهمية مثل أولويات التنمية الاقتصادية وآليات الإصلاح الاقتصادى التى يجب أن تجمع بين الفاعلية وبين مواجهة الآثار السلبية الناجمة عنها، ويبقى أن يتكاتف الجميع كى يتحول الحلم إلى واقع ينعم المصريون فيه بثمار نضالهم. لمزيد من مقالات ◀ د. أحمد يوسف أحمد