لو أن طفلا (من أى جنسية أو بلد) تصادف وجوده أمام الشاشة، وراح يتابع نجمه المحبوب الموهوب الطيب محمد صلاح وهو يتعرض لما تعرض له من هجوم شرس خشن (يحمل شبهة الترصد وسبق الإصرار) على يد اللاعب راموس فكانت النتيجة أن خرج صلاح من المباراة مكسورا منهارا.. لينهار معه فريقه ويفوز الفريق الخصم بالمباراة وبالبطولة كلها.. فما هى الرسالة التى سترسخ فى ذاكرة وضمير هذا الصغير؟ ببساطة شديدة، فإن ما سيؤمن به الصغير أن العنف والخشونة والشراسة التى جسدها راموس خير تجسيد هى السبيل إلى كسب المباريات وتحقيق الأمجاد.. (ليس فى كرة القدم أو الرياضة وحدهما بل وفى الحياة عموما).. فها هو اللاعب الماكر القادر على خداع حكم المباراة وضرب زملائه هو الذى فاز بينما الذى يلعب بشرف ونية صافية ويلتزم بالقواعد والقوانين هو من خرج متألما مهزوما مكسور الوجدان. يا لها من رسالة مشئومة تلك التى أرسلها الفارس المغوار راموس إلينا وإلى كل الصغار العاشقين لكرة القدم. ومن ثم لم يكن غريبا أن تأتى ردود أفعال المتابعين من الشباب على وسائل التواصل الاجتماعى فى كثير من الدول فى اتجاه رفض أن من يضرب بقسوة - وليس من يلعب بشرف- هو من يفوز، بل ورأينا من تطرف فى غضبه فخرج يطالب بضرورة ضرب راموس بالمثل وإصابته (عن عمد ) فى أى مباراة قادمة عقابا له على ما فعل.. ! .. بل والأنكى من هذا أن البعض ذهبوا إلى التحذير من أن ما فعله راموس مع صلاح قد يعود إلى تكراره من جديد مع رونالدو نفسه الذى يزامل راموس فى ريال مدريد، وذلك عندما تلتقى إسبانيا، التى يلعب لها راموس، ضد البرتغال، التى يلعب لها رونالدو، فى الدور الأول لكأس العالم بعد أيام (تخيلوا إلى أى مدى بلغ التفكير؛ أن يصيب لاعب زميله وصديقه من أجل الكسب الحرام) ! غير أن القصة أكبر من مجرد مباراة فى كرة القدم، وربما أكبر من كل الرياضات.. القصة تتعلق بمبدأ يظل هؤلاء الغربيون (المتقدمون) يصدّرونه لنا - نحن أبناء العالم الثالث المخدوعين- بأن الشرف والأمانة وما يسمونه اللعب النظيف هى أصل بناء وإدارة المجتمعات.. وأن القانون هو الذى يجب أن يحكم ويسود وإلا انهارت الأمم على رءوس من فيها.. فهل الغرب صادق فيما يروج له أم أننا لم نفهم سر اللعبة بعد؟ دعونا لا نفكر بانفعال وغضب صبيانى فيسبوكى لأن الغضب يطفىء مصباح العقل وتعالوا نحسبها بمنتهى الهدوء والمنطق. تخيلوا لو أن بقية لاعبى كرة القدم فى العالم كله تبنوا هذا المنهج الراموسى العنيف فى السلوك وراحوا يطحنون أكتاف خصومهم، ويدشدشون عظام بعضهم البعض فوق البساط الأخضر.. فماذا ستكون النتيجة؟ إننا آنئذ لن نصبح أمام كرة قدم بل أمام مذبحة تسيل فيها الدماء، وتعلو صيحات الألم، وتنهمر الدموع.. فهل هذا هو اللعب النظيف الذى تطربنا به الفيفا صباح مساء؟ هذه واحدة.. فأما الثانية، فهى أن تلك الفلسفة الراموسية لو سادت فسوف تهدد استثمارات بمئات المليارات فى كرة القدم، وهى استثمارات تتعيش عليها عشرات الملايين من الأسر وتفتح ملايين البيوت، بل وتمثل جانبا لا يستهان به من اقتصاد العديد من الدول. ألم تسمعوا أن عقود لاعبى البعض من الأندية؛ مثل برشلونة، أو الريال، أو باريس سان جيرمان، أو البايرن.. تفوق فى قيمتها اقتصاد دول بكاملها؟ والثالثة.. أن الرسالة الأخلاقية الكامنة وراء مبدأ اللعب النظيف ستنهار. وليس خافيا على أحد أن الكرة هى اللعبة الشعبية الأولى ومصدر الإلهام والحلم والقدوة لفقراء الدنيا ومطحونيها.. ومن ثم فإنك عندما تستخدمها لتشيع قيم العدل والمساواة واحترام الآخر وتكريس هيبة القانون فأنت بذلك تقدم خدمة جليلة للبشرية ولهؤلاء الفقراء المحرومين الذين هم السواد الأعظم فى الكون الآن.. أما إذا تعمدت إفشاء السلوك الراموسى فى الملاعب (وفى الحياة).. فستنقلب الأمور رأسا على عقب.. وستفقد الإنسانية واحدا من أهم روافد حلمها المنشود فى الحق والخير والعدل والجمال.. وهل العالم ينقصه أصلا المزيد من القبح والفساد والخراب؟ طبعا نعرف أن الفساد ظاهر ومنتشر فى البر والبحر (بما كسبت أيدى الناس).. فهل من الأفضل تركه ينمو ويكبر ويترعرع على أيدى أصحاب المذهب الراموسي.. أم ينبغى أن نضرب بقوة على تلك الأيدى كى لا نفاجأ - لا سمح الله- بأن الدنيا صارت غابة، وساعتها لن ينجو أحد من مقصلة العنف، ولا حتى الراموسيون أنفسهم.. وذلك نظرا إلى أن (كل راموس هناك الأرمس منه؟). نحن إذن أمام منهجين مختلفين فى مواجهة الحياة: منهج شراسة راموس.. ومنهج طيبة صلاح.. فلأى منهما تنحاز سيادتك؟ هل تميل إلى القائلين بأن كرة القدم هى أساسا لعبة خشنة ولا ينفع معها إلا قساة القلوب الذين يأخذون الدنيا غلابا (أى بالعافية) ويقتنصون الكرة من فم الأسد، ويأكلون لحوم الأكتاف ويحطمون عظامها، ويتبعون مبدأ «اللى يفوت يموت ولازم نكسر له كتفه».. أم أنك ستنحاز إلى منهج الالتزام بالشياكة والنبل والأناقة فى اللعب وضرورة الحفاظ على زميلك حتى لو كان خصما لك فى الملعب؟ الواقع أن سدنة الفيفا وأباطرتها الكبار عليهم أن يقفوا مع أنفسهم وقفة مصارحة فيسألوا أنفسهم كل تلك الأسئلة جميعا. قولوا لنا يا سادة: هل تريدونها مذابح دموية على النجيل الأخضر أم ستنتصرون للعب النظيف لحماية هؤلاء النوابغ الذين يمتعوننا؟ الكرة فى ملعبكم الآن فانظروا ماذا تقررون ! لمزيد من مقالات ◀ سمير الشحات