لا توجد كلمات تعبر عن العلاقة بين الأم وأبنائها، فمهما وصفت أنا أو غيرى لا نسطيع أن نعطيها حقها، فهى نبع الحنان والحب غير المشروط، والذى لا ينتظر مقابل، فهى التى كما قيل الجنة تحت أقدامها، فالأم دائما متسامحة للغاية مهما فعلنا نحن الأبناء. فالله خَص قلوبهن بالحب اللا محدود، فهى منبع الحب الحقيقى، سبحان الله فى ذلك المخلوق العجيب الذى يتسامح مع أبنائه، ويعطى بسخاء ليس هذا فقط، بل هى التى تعلمنا منها كل الفضائل، لأنها مدرسة كما قيل عنها، هذه الجملة ليست كلاما، بل هى واقع، فأمى رحمها الله علمتني أشياء كثيرة لن أنساها، بل أعيش بها، والأكثر من هذا أن ما تعلمته هو ما يميزنى، ومهما شعرت أنا أن هذه الفضائل لا تتناسب مع ذلك العصر الذى نحياه، فهى كانت دائما تقول لى "اتصرفى كما ربيتك وليس كما يعاملك الناس"، فهى التى علمتنى مساعدة الناس كلهم على حد سواء بدون النظر إلى جنسهم أو لونهم أو دينهم، كما رأيتها وتعلمت منها بأفعالها وليس بالكلام. فأتذكر جيراننا كان معظمهم مسلمين، وكنت أعود من المدرسة مرهقة وأتخيل عودتى لأجد أمى تعد لى الطعام، وعندما لا أجدها بالمنزل كنت أغضب جدا، وعندما تعود تخبرنى بأنها ذهبت مع جارتنا الست أم أحمد للمستشفى، التى لا تعرف كيفية الذهاب لها، ولم أقدر ما كانت أمى تفعله وقتها لصغر سنى وخبراتى، وكان ذلك يتكرر مع كثير من الجيران، مما جعلنى أتعود على ذلك المشهد، وتوقعى الكثير لتكرار ذلك واعتمادى على نفسى عند عودتى للمنزل وأقول فى نفسى مازحه "هى أمى تكسب ثواب فى الناس وأنا لا"، ولا أنسى عم فتحى جارنا، عندما انتلقنا إلى المنزل المجاور له وجدنا هذا الرجل الطيب المسن الذى يعيش بمفرده كفيفا، وكانت والدتى تهتم به وتطلب منا أن نذهب له لنقدم له الطعام الذى لا نذوق منه شيئا بمنزلنا إلا عندما نذهب بنصيب عم فتحى من ذلك الطعام، وكان يدعو لنا كثيرا، وشعرت بقيمة ما كانت تعلمه لنا أمى بدون كلام بل بالأفعال، ليس عم فتحى فقط ولكن لأمى كانت كالمتطوعة لا تجلس بالمنزل وقتا مثلما كانت تقضيه فى خدمة الناس، فلا أنسى السيدات الفلاحات اللاتى كن جيرانا بإحدى القرى التى كان لنا فيها أرض زراعية، ولكننا لم نعيش بها، فهؤلاء السيدات كن يحضرن لبيتنا بالمدينة راغبين فى مساعدة والدتى لهن والذهاب معهن لبعض الأماكن وقضاء بعض احتياجاتهن، بل امتدت خدمة أمى لتشغيل بعض جيراننا ببعض الشركات الحكومية أيضا، فهى لم تبخل على أحد بتقديم أى خدمة. كما علمتنى أمى أن أحترم كلمتى ووعدى، فإذا وعدت فأوفى، وإذا رأيت أى إنسان محتاج فلا أبخل عليه مهما كان، علمتنى مخافة الله، كل ما علمتنى إياه كان ليس بالكلام بل تعلمت من أفعالها. والكلام عن أمى وما تعلمته منها كثير، ولا أستطيع البوح بكثير منه لأنها كانت تعتبره أسرارا لمن تساعدهم ، لكن الله وحده قادر على أن يكافئها عن ما عملته فى حياتها، ويرحمها ويرحم جميع الأمهات وجميع الأموات. لمزيد من مقالات شادية يوسف;