ذات يوم من عام 1962، كان جابر «أفندي» مدرس الرياضيات يقف فى بلكونة شقته بحى «شبرا»، الشارع - أو الحارة إذا شئت الدقة - خال من المارة، باستثناء أعداد قليلة. من بعيد لمح سيارة فارهة، تحمل أرقاماً غريبة، تدخل إلى الشارع، وتسير ببطء، أثناء ذلك توافد أولاده ليقفوا بجواره ليروا معه ما يراه. توقفت السيارة أمام البيت، ونزل منها السائق ومن معه. وبعد ثوان كان «البيه» الذى يرتدى بدلة شيك يترجل على سلم البيت. حضرتك جابر أفندى مدرس الرياضيات. نعم أنا هو. بعد السلام والترحاب قال الضيف أنا مندوب سفارة السودان بالقاهرة. ومن فضلك تأتى معى، لأن السفير فى انتظارك. وبعد أيام جاء السفير السودانى بالقاهرة الذى كان فى يوم من الأيام تلميذاً يعلمه.. عم جابر، فى إحدى مدارس أم درمان. وجاء الرجل ليجسد منزل عم جابر والشارع والحارة وكل أهل الحتة فى حالة استعداد كبري. تضحك د. لميس جابر وهى تتذكر معى تلك الأيام وتقول: كنت لسه صغيرة.. لكن لا أنسى هذا اليوم فى حياة أبى وحياة الحارة كلها. كان هذا اليوم عنوانه «السفير جاي»! وكم كان يوماً سعيداً فى حياة أبى «عم جابر». الله يرحمك يا «بابا»! وإلى نص الحوار: أجدك تكررين مسمى «عم جابر» وأن تتذكري معى «حضرة المتهم أبي»؟ - كان هذا لقبه وسط طلابه. أبى كان مدرساً للرياضيات وكان له طريقته الخاصة فى التدريس، حيث لا ضرب ولا عقاب، كان رجلاً مسالماً ومتسامحاً، ومتصالحاً مع نفسه ومع علمه إلى أبعد حد تتصوره. قبل أن نذهب إلى عالمه وعلمه.. ماذا حدث يوم جاء السفير السودانى إلى «عم جابر»؟ - كان هذا السفير تلميذاً من تلاميذه فى مدينة أم درمان، حيث سافر أبى لعدة سنوات للعمل فى السودان، ومرت السنون وكبر التلميذ وأصبح سفيراً. وبعد أول يوم من وصوله للقاهرة بدأ يسأل عن مدرس اسمه كذا كذا، وعندما عرف مكانه جاء ليزوره.. وأمى وأخواتى والشارع كله بدأنا فى رحلة تنظيف وتجميل الشقة والعمارة بل والحارة كلها. وأذكر أن السفير يومها قال لأبى «أنا جاي أشكرك، فأنت الذى علمتنى وعرفتنى يعنى إيه علم ويعنى إيه أخلاق»؟ ولماذا سافر الوالد للعمل فى السودان؟ - فى فترة من الفترات كانت السودان ومصر قطراً واحداً، وبالتالى كان هناك تعاون مشترك بينهما. وأبى ولد وتعلم فى مدينة «أبوتيج» بمحافظة أسيوط، ثم جاء وأكمل تعليمه فى القاهرة. وتنقل فى العمل كمدرس ما بين أسيوطوالقاهرة والسودان. ماذا علمك «عم جابر»؟ - علمنى القراءة والثقافة، علمنى التربية والأخلاق والاعتزاز بالنفس وعدم الخوف، علمنى حب السياسة وحب الوطن، أذكر ذات يوم تم القبض على شقيقى الأكبر «منير» بتهمة الانضمام للحركة اليسارية فى ذلك الوقت. وتم احتجازه لمدة 45 يوماً لم نعلم عنه شيئاً، وكانت أمى تبكى على ابنها وتقول «آدى اللى خدناه من السياسة يا جابر»، فيرد بصمت ويقول: بكرة الغايب يرجع يا أم منير. كان منير أخى قبل ذلك قد سافر إلى المقاومة الشعبية فى خط القناة أثناء العدوان الثلاثى، وظل هناك أسابيع وشهوراً، وأمى تبكي. وعمك جابر يقول: يا أم منير آمال مين اللى هيحمى البلد غيرهم؟ كان سعيداً بغياب ابنه وسفره إلى خط النار؟ - طبعاً كأب لا، أى أب بيصاب بالحزن على غياب والده، لكنه كان سعيداً بينه وبين نفسه أو تستطيع أن تقول فخوراً بوطنية ابنه، وأنا أذكر أنه هو نفسه ذهب إلى العباسية، وكان هناك معسكر للجان الشعبية أو المقاومة الشعبية - بلاش كلمة لجان دى لأنها تذكرنى بأيام سوداء مرت على مصر فى 25 يناير 2011، المهم ذهب بابا إلى قائد تلك اللجان وقال له: أريد التدريب على ضرب النار. وقال له: نظرك ضعيف يا عم جابر. عد إلى بيتك وتأكد أن ولادك رجالة، يقصد من فى المعسكر من شباب - وبكره هيحرروا وهيحموا بلدهم. فى أى عام ولد عم جابر؟ - 1904 ولد يتيماً للأم والأب، وتولت تربيته الجدة، لكنها بعد شهور ماتت. ولم يبق له فى الحياة أحد، حتى المنزل الذى تركه أبوه وأمه أخذته خالته. يبدو أن الظروف كانت قاسية عليه؟ - هذا صحيح، لكنه - وهذا هو العجيب فى شخصيته - كان رغم قسوة الظروف، إلا أنه كان قلبه طيباً، وأحاسيسه مرهفة، ويبكى من أى شيء ومن أقل شيء. إذن كان مرهفاً للحس بدرجة كبيرة؟ - فوق ما تتصور، مثلاً وهو يدرس لم يضرب تلميذاً أو تلميذة، كعقاب له، بالعكس كان له فلسفة فى التعليم قائمة على الإقناع واللين وحسن المعاملة. أذكر أنه كان مدرساً للرياضة فى مدرسة بنات فى شبرا، وإذا ما صحح أوراق الإجابة لهن، وكانت النتيجة أصفاراً لهن، كنَّ يأتين إليه فرادى، الواحدة تلو الأخرى والدموع تملأ عيونهن فيسأل: ما الذى يبكيكنَّ يا بنات. فيقول: أعطيتنا أصفار يا «عم جابر» فى امتحان الشهر، فيقول لهن «ولا يهمك أنت وهية». وتعالوا أعدل ليكم النتيجة. وبسبب ذلك طلب نقله إلى مدرسة «ولاد» لأن قلبه كان خفيفاً ولا يتحمل بكاء البنات فى المدرسة. هذه كانت فلسفته فى التعليم.. فماذا عن فلسفته فى التربية؟ - نفس الأسلوب، لم يفرض علينا قولاً. ولم يجبرنا على فعل أى شيء على غير هوانا. هل هو الذى اختار لك كلية الطب؟ - هو كان يريد أن أكون طبيبة. ولكنه شعر بأننى فى بداية الأمر لا أريد دخول كلية الطب، والأسرة كلها كانت تطلب منى كتابة الطب كرغبة أولى، وأنا كنت «عنيدة» رفضت ما طلبوه، وقررت أن أدخل كلية الهندسة، وأبى فى هذا الموقف «عارفني» مش هاجى بالعند، فتركنى أكتب كلية الهندسة، ثم ذهبت معه للكلية وبصراحة كان منظر المبنى سيئاً. فقلت له: ما هذا الذى أراه؟ فقال لى هل تريدين أن تروح نشاهد «قصر الزعفران» قلت نعم، ذهبت معه إلى مبنى الجامعة (جامعة عين شمس) فوجدت الزهور والنخيل والجمال فقال لى المبنى المقابل لهذا المبنى، هو مبنى كلية الطب. فما رأيك؟ قلت: طب طبعاً، ودخلت كلية الطب بهذه الطريقة السهلة منه دون فرض أو قهر. هل ورثت منه عدم إعجابك بالرئيس عبدالناصر؟ - بالعكس أنا لم أر أبى يبكى إلا يوم النكسة والتنحى ويوم رحيل عبدالناصر، أبى عاش ومات وهو يحب عبدالناصر ورآه - كما رآه - الكثير من المصريين صانع النصر والجلاء والتطور والنماء. آمال حضرتك «طالعة» لمين؟ - طالعة لنفسى يا أخى فى النقطة دي. شوف عبدالناصر بالنسبة لى كان مثلما كان بالنسبة للمصريين، لكن أنا اتعالجت من مرض عبدالناصر. هل عبدالناصر مرض؟ - الفكرة نفسها مرض، لكن لأن الإعلام الناصرى وكتابه وعشاقه غيبوا وعى الناس، ظل الكثير من الناس - خاصة الكتاب والصحفيين أو بعضهم - مغيبين ومرضي بنوع مرض سياسى اسمه عبدالناصر. لكن عم جابر - والدك - كان يحبه؟ - طيب إيه المشكلة؟ أبى لم يعالج من مرض عبدالناصر مثل غيره من المصريين، لكن أنا - الحمد لله - اتعالجت عقبال الآخرين. ومتى تم علاجه منه؟ - وأنا أحضر لمسلسل الملك فاروق، ذات ليلة وأنا أقرأ التاريخ من مصادر متنوعة، وقع تحت يدى كتاب بعد أن فرغت منه أغلقت صفحاته ومعها أغلقت صفحة عبدالناصر من حياتى الفكرية، واعتبرته هو السبب الأول فى قتل العمل السياسى المصرى، بل وهو الذى خرب ودمر ودفن التجربة الديمقراطية فى مصر منذ أن جاء للحكم. كيف هذا وهو الذى أقام السد العالى والمصانع ومجانية التعليم والإصلاح الزراعى وغيرها من المشروعات القومية؟ - بقولك إيه أنت جاى تتكلم عن «عمك جابر» وإلا عمك «عبدالناصر»؟ قلت: عم جابر؟ - إذن دعنا من السياسة، قال مجانية تعليم قال؟ وإصلاح زراعى إيه بس؟ إذن نعود ل«شبرا» وأيام «عم جابر» الأخيرة؟ - فى نهاية رحلة العمر، بدأ الأمر يأخذ من صحته، وكنت أنا خارج مصر عندما علمت بنبأ رحيله، وأذكر يومها أن اثنين من إخوتي كانوا فى رحلة عمل خارج مصر، وحزنى عليه كان عنيفاً، لأنه كان أبا وأماً فى نفس الوقت، ويومها قلت وكأنك يا «عم جابر» ملما جئت للحياة وحيداً، تغادرها بطريقة تشبهاً إلى حد ما. صحيح أمى وباقى الإخوة والأهل كانوا بجواره، لكننى أعتبر أن رحيله وبعض أولاده بعيد عنه، أعتبر هذا أيضاً غياباً يشبه لحظة مجيئه للدنيا. ماذا فعلت بعد عودتك خاصة والبيت لم يعد فيه صوت عم «جابر»؟ - لم أذهب إلى البيت، بل ذهبت إلى قبر، ووقفت أبكى رحيله، وأثناء ذلك جاء «التربي» وقال: هو حضرتك بنت «عم جابر»؟ قلت: آه. قال لكننى لم أرك من قبل؟ قلت كنت خارج مصر. فقال: لا تبكى يا أستاذة. عم جابر ده كان رجل طيباً، ودمه خفيف، فلفت نظرى قوله، قلت له، وهل تعرفه من قبل؟ قال: لا، لكنه عندما جاء يشترى مقبرته. سألنى وهو يضحك. مفيش وصلة كهربا للتربة يا ريس؟ قلت له: لماذا؟ قال وهو مستمر فى الابتسامة، خايف يا أخى لما أدفن أصحو بالليل أقرأ كتاب واللى حاجة ملقيش كهربة! «التربي» كان يحكى وهو يضحك. وأنا أسمع وأبكي. ثم سكتت د. لميس جابر قليلاً وكأن سيرة البكاء حركت الدموع فى عينيها أكثر مما كانت عليه طيلة حوارنا، حيث لاحظت أنها تحاول مقاومة البكاء. فقبل أن تتدحرج الدمعة من تحت نظارتها الطبية، كانت تمتد أصابعها لتواجهها حتى لا تنزل أمامى، غير أن مشهد زيارتها له فى المقابر، كان عنيفاً وهى تتذكره، فاشتدت الدموع رغبة فى النزول رغم مقاومته لها، قبل انتهاء الحوار بقليل، استأذن زميلى محمد طلعت المصور فى الانصراف، وكلنا فى مكتب د. يحيى الفخرانى بمنزله الكائن على أطراف جبل المقطم، فخرج الزميل من باب المكتب وترك الباب مفتوحا حيث كان جزء كبير من السماء نراه من وراء الباب المفتوح.. وربما هذا الذى شجع د. لميس جابر وهى تختم كلامها وعينها متجة ناحية السماء وهى تقول بتأثر شديد: «الله .. يرحمك يا عم جابر ويرحم أيامك». بعدها أغلقت الكاسيت ولملمت أوراقى وخرجت من فيلا الدكتور يحيى الفخرانى مترجلاً فى نفس الشارع الذى يحمل اسمه، حتى وصلت عائداً إلى شارع بعده بقليل كان يسكن فيه الفاجومى الشاعر النبيل أحمد فؤاد نجم، ووقفت أمام الشارع الذى كان بيته فيه- بعدما نقل من مساكن الزلزال فى سوق المقطم التى جاء إليها من رحلة «حوش قدم» - فى سنواته الأخيرة. ووقفت أمام الشارع أتذكر أيام قضيتها معه وأنا أقول: الله يرحمك يا عم نجم ويرحم أيامك، فمثلك ومثل عم جابر كانت مصر - بجد - جميلة.