عدت إلى معتقل القلعة وقد تخلصت تمامًا من الإحساس بالرعب الذى تمكلنى من لحظة القبض علىّ فى المنيرة وحلّ مكان الإحساس بالخوف إحساس أشد مرارة وهو الإحساس بالقهر والحجز.. كيف سمح هذا الحيوان الذى كان يحقق معى كيف سمح لنفسه بأن يأمر زبانيته بمدى وضربى على كفوف قدمىّ تماما كأى لص ضبط متلبسًا بالسرقة أو فى أحسن الحالات كتلميذ بليد فى كُتّاب (الشيخ نكلة)؟! ولو لم يستند هذا الحيوان إلى قوة السلطة فى بلد يعيش شعبه بين الجوع والخوف هل كان يستطيع ممارسة هذا الفعل القبيح؟ لكننى كنت أود أن أعرف اسم هذا الضابط من باب العلم بالشىء ودارت فى رأسى أسئلة من نوع هل لو كان سمير حسنين مكان هذا الكائن الكريه هل كان سيتصرف مثله؟ وكانت الإجابة بالنفى القاطع، لأننى لم أستطع نسيان كلمة الرائد سمير حسنين فى نهاية لقائى الأول به. عمومًا أرجو أن تتأكد من أننى عندما اكتشفت أن وجودى فى هذا الجهاز هو حماية لشخص وليس لوطن فإننى سوف أترك هذا الجهاز دون تفكير، إذن لا يمكن أن يتصرف هذا الرجل هذا التصرف المعيب ولكن رضا عبدالسلام ممكن أن يتصرف مثل هذا الحيوان القذر، أولاً لأن زوجته زميلة هدى عبدالناصر فى الدراسة وهو يستند إلى هذا الوضع باعتباره تميزًا على زملائه وقد سمعت من أحد المخبرين أنه يكتب تقارير سرية فى زملائه! وحين دخلت من باب المعتقل لم يكن يدور فى رأسى سوى سؤال واحد: من هذا الحيوان اسمه ورتبته؟ وكأن الله أراد أن يلطف بحالى كما عودنى سبحانه له الحمد حتى يرضى *** عند عودتى إلى المعتقل نقلونى من الزنزانة رقم 2 لأجد نفسى فى العنبر التحتانى فى زنزانة رقم 20،وقابلنى المخبر عبدالعزيز وهو شاب مهذب خريج مدرسة ضباط الصف، وهو الذى عرفت منه أن الحيوان الذى كان يحقق معى اسمه حسن أبوباشا الشهير عند المخبرين والضباط فى القلعة ب«حسن بيه» وهو نائب مدير جهاز أمن الدولة الذى كان اسمه أيضًا حسن ولكن حسن طلعت داوود وقد حكى لى عبدالعزيز عن بداية علاقته بهذا الحيوان، قال: أنا يومها كنت لسه مستلم الخدمة من زميلى المخبر البايت، وبعد أن استلمت المنطقة من زميلى فوجئت بحسن بيه يأمرنى بفتح الزنزانة رقم 3 ففتحتها ليدخل هو ويقول لى: ما تفتحش على الزنزانة إلا إذا ندهت لك وفعلا أغلقت عليه الزنزانة وذهبت للمرور على باقى الزنازين ولم يمض وقت طويل حتى سمعت الخبط على الزنزانة رقم 3 وحين فتحت باب الزنزانة سقطت مغشيًا علىّ وبعد أن أفاقونى سمعته يقول لى: اخص عليه يا عبدالعزيز دانا كنت فاكرك أجمد من كده ثم قال لى: اللى يشتغل مع حسن بيه لازم يكون راجل. قلت لعبدالعزيز: انت وقعت مغشيًا عليك ليه؟ فأجاب على الفور م اللى شفته. قلت شفت إيه قال وهو يرتعد كوم لحم معجون بالدم مالى السرير قلت هى الزنزانة دى كان فيها مين قال ماهى دى المصيبة يا أستاذ أحمد قلت برضه ما جاوبتنيش مين اللى كان فى الزنزانة؟ قال اللواء جميعى وهو دفعة حسن بيه واتخرجوا فى يوم واحد. قلت وهو اللواء جميعى كانت تهمته إيه؟ ضحك وقال طب قول لى الأول انت تهمتك إيه؟ معتقل يا أستاذ أحمد مش مسجون على ذمة قضية ضحكت وقلت معلش أنا أصلى لسه جديد فى الكار. *** فوجئت صباح اليوم التالى بعبدالعزيز يناولنى كتابًا ويقول: خد بقى سلى نفسك بس ياريت تخبيه كويس قرأت على غلاف الكتاب (الشوارع الخلفية عبدالرحمن الشرقاوى) احتضنت عبدالعزيز وقبلته وأنا أقول: دى أجمل هدية فعلاً وأنا مش عارف أقول لك إيه قال: ماتقولش حاجة يا أستاذ أحمد واوعى تفتكر أنى ما اعرفكش أنت وعم الشيخ إمام قلت بدهشة كنت تعرفنى قبل ما تشوفنى هنا؟ ضحك وقال: المفروض إنى ما اعرفكش قبل ما أشوفك حسب التعليمات المشددة. قلت خلاص فهمت وبمرور الأيام بدأت اتعرف على زملائى المعتقلين كنا ثلاثة وعشرين معتقلاً فيهم أربعة جنرالات من القوات المسلحة وهذا الوضع أثار دهشة ماركوا الطليانى فصرخ فينا: «أربعة جنرالات فى السجن أمال بتحاربوا إسرائيل بمين؟» فقلت له: إنت فاهم أن الجنرالات عندنا زى عندكم؟ لا يا حبيبى احنا جنرالاتنا الأربعة بشلن وعبى وشيل. وكان أقرب جنرال منى فى الزنازين هو اللواء صلاح الموجى اللى كان قائد بورسعيد أثناء العدوان الثلاثى سنة 1956 وهو الذى اتهموه بتسليم بورسعيد للأعداء وحين سألته: ماذا حدث فى بورسعيد سنة 1956 يا سيادة الجنرال ضحك وبمرارة وقال: وصلنى كل ما قالوه عنى لتشويه صورتى قلت هل أوجعك هذا؟ قال الذى أوجعنى فعلا كان الحال الذى آلت إليه هذه المدينة الجميلة.. كانت الجثث تملأ الشوارع ومياه الشرب والكهرباء مقطوعة تمامًا والأهالى يستغيثون بى وأنا لا أملك لهم ولا لجنودى ولا لنفس شيئًا وأحمد سعيد فى الإذاعة المصرية يتحدث عن انتصارات وهمية أحرزتها قواتنا على قوات الغزو، وأنا سمعته بأذنى والاتصالات بالقيادة مقطوعة تمامًا فلم يكن أمامى سوى أن أتصرف كمسئول عن آلاف الجنود والمدنيين، فاتصلت بقائد قوات الغزو، وشرحت له الموقف بالتفصيل فتسرف بفروسية وأرسل لنا النجدة، ووقعت معه على وقف إطلاق النار ولم يشأ أن يعاملنى كقائد مهزوم هذه هى الحقيقة. **** هذا هو أحد الجنرالات الأربعة رفاق السجن معى وضرورى أنك سوف تسألنى: ما الذى جاء باللواء صلاح الموجى إلى المعتقل؟ أقول لك: صلى على سيدك رسول الله اللهم صلى عليك يا حبيبى يا رسول الله. بقى يا سيدى بعدما فوجئ العالم بتعيين السيد أنور السادات نائبًا أول لرئيس الجمهورية العربية المتحدة تحول السيد/ أنور السادات نفسه إلى ما يشبه (أبوالنطيط) وبدأت العدسات تسلط عليه بعد فترة طويلة من التوارى عن الأنظار وانقطاع أخبار المذكور عن سائر وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة ودى ماكنتش أول مرة تحصل له الحكاية دى ،لأنه كان ياعينى الطرف الأضعف دائمًا بين الضباط الأحرار، وكان هو وحده الضحية الدائمة لكل جولة من جولات الصراع على السلطة بين جمال عبدالناصر ورفاقه أعضاء مجلس قيادة الثورة.. لكن الجديد المرة دى كان تعيين أبو الأنوار، نائب أول ووحيد لرئيس الجمهورية والنفس أمارة بالسوء والشيطان شاطر يقوم عمنا أنور ينتهز سفر جمال عبدالناصر إلى بلجراد لزيارة صديقه جوزيف بروز تيتوا وتعيين النائب الأول والوحيد رئيسًا للجمهورية بالنيابة وكان أول قرار أصدره هو اعتقال اللواء صلاح الموجى! ليه بقى سيادتك؟ لأن أبوجمال اللى هو الرئيس بالنيابة محمد أنور السادات كان حاطط عينيه على قصر اللواء صلاح الموجى الملاصق للسفارة السفويتية. وقد وضع القرار موضع التنفيذ وشحن اللواء صلاح الموجى إلى معتقل القلعة ليكون للعبد الفقير شرف لقائه ومزاملته! واحد حيسألنى طب موقف جمال عبدالناصر حيبقى إيه لو عرف؟ ح أقولك وإيه اللى حيعرف جمال عبدالناصر؟ وقبل ما تندهش لازم تعرف إزاى اللواء صلاح الموجى خرج من المعتقل؟ ح أقولك إن السيدة زوجة شفيق اللواء صلاح الموجى ربنا افتكرها فخدها شوف ازاى ربك بيسبب الأسباب أحد أبناء الرئيس جمال عبدالناصر بيعزى ابن اللواء صلاح الموجى فى مرات عمه. فقال له: حلوه والله اللعبة دى، أبوك يعتقل أبوايا وأنت تعزينى فى وفاة زوجة عمى! وذهب ابن الرئيس يسأل أباه بابا.. هو أونكل صلاح الموجى معتقل؟ ويفاجأ رئيس الجمهورية العربية المتحدة بالسؤال والبحث والتقصى يعرف كل التفاصيل فيصدر أمره بالإفراج الفورى عن اللواء صلاح الموجى ويطلب من نائبه الأول والوحيد أن يختفى من على المسرح السياسى حتى يقضى الله أمرًا كان مفعولاً ويومها قالت بعض الصحف إن أنور السادات أمرضوه فمرض وقام بالإجازة المرضية. ولسه ياما نشوف ونسمع يا شعب مصر يا أطيب وأنبل الشعوب ياللى القطة تاكل عشاك والعسكر ياكلوك على قفاك. **** قلت لعبدالعزيز المخبر ماتيجى نلعب لعبة نضيع بيها الوقت الممل ده. قال لى: لعبة إيه؟ لعبة إنك تقدم زملائى الثلاثة وعشرين ضيوف المعتقل ويا حبذا و تقدم لى معلومة عن كل واحد منهم. ضحك وقال لى: الثلاثة وعشرين ماينفعش قلت له: ليه؟ انت مش عارفهم كلهم؟ قال لى: أيوه عارفهم كلهم قلت له أمال ليه بقى ماينفعش؟ قال لى: لأنهم من ثلاثة وعشرين يا أستاذ أحمد. قلت له. لأ بقى دانت ناوى تاكل دماغى. ضحك وقال لى: أنا ماباكلش لحم بشرى قلت له: آمال إيه بقى العبارة ماتحيرنيش؟ قال لى: إنت نسيت نفسك وإنت بتطلب منى أقدم الثلاثة وعشرين اللى فى المعتقل؟ قلت له: يااااه تصدق بقى أن أنا غبى. ضحك وقال لى أصدق طبعًا قلت له: طب ياللا نبدأ من زنزانة واحد. قال لى: دى فيها الرائد طارق مسعود أحد قادة تمرد سلاح الفرسان على مجلس قيادة الثورة سنة 1954 قلت: مفيش أى معلومات عنه قال لى: ده بالذات شديد الغموض وكل اللى نعرفه عنه ان اسمه طارق بيه قلت له واللى بعده فى زنزانة ثلاثة ضحك وقال لى: ثانى حتنسى نفسك قلت له: حقك على اللى بعد اللى بعده قال لى: دا محمود بيه قلت له: تشرفنا محمود بيه مين؟ قال لى: محمود بيه عبداللطيف مستشار ورئيس محكمة وابن عمدة بنى مر، مسقط رأس الرئيس جمال عبدالناصر. قلت له: وده طبعا إخوان مسلمين قال لى: لأ مش إخوان مسلمين قلت له: شيوعى؟ قال لى: باقولك ابن عمدة ومستشار ورئيس محكمة تقول لى شيوعى قلت له: صحيح أنا حمار ضحك وقال لى: بلاش تواضع يا أستاذ أحمد قلت: طب إيه أسباب اعتقاله؟ قال لى: أسباب عائلية قلت له: نعم؟ حضرتك بتهزر؟ قال لى لا والله ما باهزر ولا حاجة هى دى الحقيقة الراجل معتقل لأسباب عائلية. قلت له: طب وانت ما سمعتش وجهة نظر محمود بيه؟ قال لى: كل الضباط والمخبرين فى القلعة سمعوا محمود بيه وهو بيقول وجهة نظره فى الموضوع. قلت له: طب إيه هى وجهة نظره ما تقولها لى قال لى: مش حتصدقها. قلت له: يا سيدى قول وأمرك لله قال لّ: يا سيدى قول وأمرك لله قال لى: طبعا ح أقول وأمرى لله وماتقولشى عليا عبيط فقلت له: أقول عليك عبيط ليه؟ قال له: لأن الخلاف بين محمود بيه عبداللطيف وبين ثوار يوليو بما فيهم الرئيس جمال عبدالناصر ما هواش خلاف سياسى قلت له: أمال خلاف إيه؟ ضحك بشده وقال لى: خلاف عائلى صدقنى