قد يظن كثيرون أن الإنسان كان يسعى دائما إلى تحقيق أكبر قدر من السعادة، وأن هذا الهدف ظل يشغل المفكرين منذ أقدم العصور. ولكن الحقيقة أن الإنسان طوال الجزء الأكبر من تاريخه كان مشغولا بأهداف أخرى اعتبرها أسمى من ذلك، وأن هدف تحقيق السعادة لم يصبح معيار حكمنا على النجاح أو الفشل فى الحياة إلا منذ وقت قصير نسبيا، أقصد بالنسبة إلى تاريخ الإنسان الطويل. كانت المشكلة الأكثر إلحاحا على فلاسفة ومفكرى اليونان هى تحقيق أكبر قدر من المعرفة والحكمة. كان الشخص الحكيم، حتى ولو كان بائسا، يعتبر إنسانا أفضل وأجدر بأن يكون قدوة لغيره، من الشخص السعيد، إذا كان هذا الشخص السعيد جاهلا أو أحمق. ثم تحول الهدف الأسمى إلى طاعة الرب والالتزام بقواعدالدين ثم بدأ هذا الاعتقاد يهتز وتثور حوله الشكوك خلال العصر المعروف بالنهضة، حيث بدأ هدف الإثراء يحل تدريجيا محل التقوى والورع، حتى جاء القرن الثامن عشر عندما جاء الفيلسوف الانجليزى جيريمس بنثام (H.Bentham) فى أواخر هذا القرن فقدم معيار «أكبر قدر من السعادة لأكثر عدد ممكن من الناس» كبديل للمفهوم الدينى أو الأخلاقى للسعادة. لم يكن غريبا أن يقترن ظهور فكرة بنثام هذه ببداية الثورة الصناعية التى سمحت بان يحل مفهوم دنيوى للسعادة محل المفهوم الدينى أو الأخلاقى. فقد اقترنت هذه الثورة الصناعية بانتشار أمثلة للنجاح المادى الذى لا يستند إلا لأعمال (دنيوية) فإذا بمبدأ بنثام يقدم التبرير الفكرى لهذا النجاح: المهم هو السعادة الدنيوية، أيا كان مصدرها، نبيلا أو غير نبيل، وليس استنادها الى مبدأ دينى أو أخلاقى. لقد وصف الاقتصادى الانجليزى الشهير جون مينارد كينز هذا المبدأ الذى قدمه بنفام بانه «كالدودة» التى تنهش فى أحشاء الحضارة الغربية الحديثة. وأظن أنه كان يقصد بذلك أنه مبدأ لا يقترن بأى التزام أخلاقى. وقد دعم نمو الحضارة الغربية الحديثة ورسوخها من هذا الاعتقاد، فأصبحت «السعادة»، والسعادة وحدها، هى الهدف دون اعتبار لأى هدف آخر. عندما يركب أحدنا الطائرة يسمع فى الميكروفون صوت المضيفة أو قائد الطائرة يرجو للركاب «رحلة سعيدة»، وعندما تنتهى الرحلة يهنئ الركاب على وصولهم سالمين، مع رجاء أن يكونوا قد أمضوا ساعات سعيدة خلال الرحلة، كما تعلن بعض المطاعم عن وجبة جديدة لعملائها بوصفها بأنها تقدم لهم هذه الوجبة فى «ساعة سعيدة». واعلانات التليفزيون تعد مستهلكى ما تعلن عن سلع بأنها ستجلب لهم السعادة. هكذا كادت السعادة تصبح الهدف الأسمى وربما الأوحد، تمشيا مع المناخ السائد فى مختلف مناحى الحياة فى الاقتصاد والسياسة والتعليم والثقافة.. الخ ما أكثر ما وصفت الحضارة الغربية بانها حضارة «مادية»، ولكن ربما كان الأدق وصفها بانها تقوم على «مصلحة الفرد» وكأن هذه المصلحة مستقلة عن مصالح غيره من الناس، وأن مفهوم السعادة التى تتبناه هذه الحضارة هو مفهوم فردى بحت، وربما كانت هذه هى الصفة التى سمحت لاقتران هذه الحضارة بتكرر ظاهرة الحرب، وكذلك بما تسمح به من درجة من التحرر الجنسى لا تقبلها غيرها من الحضارات والثقافات. إن فكرة «السعادة» كثيرا ما استخدمت لتبرير مثل هذه الأعمال دون الالتفات إلى أن مفهوم السعادة المستخدم فى هذه التبريرات هو مفهوم معين ليس من الضرورى أن يقبله أشخاص تربوا على مفهوم مختلف للسعادة، لانتمائهم الى ثقافات مغايرة. لمزيد من مقالات ◀ د.جلال أمين