بإعلان الهيئة العليا المستقلة للانتخابات بتونس النتائج الرسميةلأول مجالس بلدية بعد الثورة ، يصبح بالإمكان تسجيل عدد من الملاحظات على العملية ذاتها والنظام الحزبى ومسار الانتقال إلى الديمقراطية. بعيدا عن غلبة الانطباعات والتوظيف السياسى الدعائى و أحكام الاطلاق عن فشل أو نجاح .وتقصر الملاحظات هنا على خمسة جوانب أو متغيرات هى : صعود القوائم المستقلة .. وضعف المشاركة ..وتبدلات موازين القوى بالنظام الحزبى ..وأداء الهيئة العليا المستقلة للانتخابات .. ومستقبل الانتقال الديمقراطى فى أفق الانتخابات التشريعية الرئاسية المقرر لها نهاية العام المقبل 2019. مع الأخذ فى الاعتبار أن أى محاولة للفهم يجب أن تستند الى قاعدة معلومات واضحة وموثوقة. وبالاتصال المباشر مع عدد من مكونات العملية الانتخابية والأحزاب والقوائم الفائزة بعد إعلان الهيئة النتائج الأولية الكاملة يتضح تعدد القراءات داخل الهيئة الواحدة والحزب الواحد. وأيضا ضرورة الحذر عند الأخذ بالنتائج المعلنة كمعطى واضح ونهائى وحاسم . وعلى سبيل المثال فإن داخل حزب يملك الكتلة الثالثة بالبرلمان ك «مشروع تونس» من يقول بأن مقاعده بالمجالس البلدية تتجاوز حساب 130مقعدا من 4740 ترشحوا باسمه وبأنه حصد 325 مقعدا أخرى ضمن 105 قوائم مستقلة عبرت عتبة الثلاثة فى المائة ونحو مائة مقعد إضافى على 34 قائمة لائتلاف الأحزاب المدنية (11 حزبا معظمها ليبرالى) .وإذا صحت هذه الأرقام فإن هذا الحزب يصبح نصيبه فى المجالس البلدية بعموم تونس نحو 7٫7 فى المائة.وهكذا فهو يعتقد بأنه فى المرتبة الثالثة بين الأحزاب والائتلافات الحزبية من حيث عدد المقاعد بالبلديات فيما تمنحه حسابات هيئة الانتخابات السادسة وبحصة 1٫4 فى المائة فقط من الأصوات الصحيحة وبحصة نحو 1٫7 فى المائة من اجمالى مقاعد البلديات.والأمر نفسه ينطبق الى حد ما على حسابات حزب نداء تونس .وربما «النهضة « وإن كانت الأخيرة تتنازع داخلها تقديرات متباينة بهدف أن تستعيد مرتبة الحزب الأول فيما ينخفض المصوتون لها على نحو درامي. أولا .. إعلان النتائج الرسمية عن حصد القوائم المستقلة نحو ثلث المقاعد فى مجمل مقاعد المجالس البلدية ملمح لافت فى هذه الانتخابات. وهذا اذا ما أخذنا فى الاعتبار أن برلمان تونس الحالى لا يتجاوز فيه عدد المستقلين عن الكتل الحزبية نسبة السبعة فى المائة .بل وبينهم من هو ممثل لحزب صغير لا يحقق نصاب الكتلة. ومن غير شك فإن خوض 14 فى المائة من القوائم هذه الانتخابات البلدية تحت عناوين «مستقلة « يحمل رسائل تحذير الى الساسة الحزبيين ومؤسسات الحكم القائمة على أحزاب بالأساس. وبلاشك فإن علاقة المواطنين التونسيين مع الأحزاب والنظام الحزبى تعانى آثارا سلبية مضاعفة ناجمة عن ميراث نظام الحزب الواحد قبل الثورة ومن مستجدات سبع سنوات بعدها، مل فيها الناخبون الوعود مع قليل من الإنجاز. ناهيك عن مفعول مناخ اعلامى دعائى يغلب عليه تنفير الناس من الأحزاب والسياسة والمشاركة . ولأسباب عدة لا ينبغى المبالغة فى «صدمة القوائم المستقلة أو الخروج بها عن سياقاتها الى استنتاجات بعيدة . فالقوائم المستقلة لا تشكل بطبيعتها قواما سياسيا وفكريا واحدا يمنحها وضع قوة موحدة فى النظام السياسى. كما أنها قد تحمل بداخلها مكونات حزبية قائمة أو قريبة من الأحزاب القائمة ،مع فرص مفتوحة على انشاء أحزاب وحركات سياسية جديدة مستقبلا. وبالطبع فإن انتخابات بلدية تعنى علاقة أقرب وأوثق بين الناخب وبين شخصية المرشح وأضعف مع الحزب بوصفه كيانا على المستوى القومى المتجاوز للمناطق والجهات . .ويمكن إدراك لجوء أحزاب أو ائتلافية حزبية بما فى ذلك الوازنة الكبرى للدفع بقوائم مستقلة توصف ب «الموازية» فى هذه الانتخابات البلدية بأنه لون من التحايل على ناخبين فقدوا الثقة بها.. لكن لعله من الملامح الإيجابية فيما جرى أن قوائم مستقلة وشبابية تمكنت من انتزاع مقاعد، بل وتصدر التمثيل فى عدد من البلديات .وهذامن دون ان تمتلك الإمكانات المالية والإعلامية وماكينات الانتخابات المتوافرة بالأصل لأحزاب كبرى بذات الدوائر . كما تفتح ظاهرة صعود القوائم المستقلة إذا أخذنا فى الاعتبار تنامى الحركات الاحتجاجية الاجتماعية الشبابية ذات الطابع المطلبى وبخاصة فى الأقاليم الأقل حظا فى التنمية الباب للتساؤل: كيف ستتطور هذه الحركات فى علاقتها بمجالس بلدية منتخبة على هذا النحو ؟ ثانيا .. بالأرقام المطلقة والنسب سجلت «البلديات» هذه المرة النسبة الأدنى فى مشاركة الناخبين بين جميع الاستحقاقات الانتخابية بعد الثورة . بالكاد نحو 1٫8 مليون ناخب يمثلون 35 فى المائة من إجمالى الناخبين المسجلين . كما كان ملحوظا العزوف الأكبر للشباب وعلى نحو خاص . وثمة ما يمكن تفهمه عند ملاحظة هذا المنحنى الهابط للمشاركة فى الديمقراطيات الناشئة بعد طول استبداد وتجريف للحياة السياسية والحزبية وافساد لها ،وخاصة إذا اقترنت السنوات القليلة التالية لمولد هذه الديمقراطيات بفشل الحكومات والأغلبيات الحاكمة فى معالجة معاناة الناخبين من البطالة والتهميش وغلاء المعيشة و ضعف الخدمات العامة وتدهورها . وكذا مع تجاهل مطالب أساسية رفعتها الانتفاضات والثورات المطالبة بالتغيير .لكن الانتخابات البلدية بتونس 2018 جاءت بمفارقة إضافية هنا . فمقابل كل هذا العزوف غير المسبوق بعد الثورة يأتى الاقبال الكبير من الشباب على الانخراط فى الترشح لها ( 52 فى المائة من اجمالى مايزيد على 54 ألف مرشح على القوائم ). وتحمل نتائج الانتخابات البلدية التونسية بما فى ذلك فوز النساء بنسبة 47 فى المائة من إجمالى المقاعد فرصة كبرى لتجديد الطبقة السياسية وإعادة تربيتها وتأهيلها من أسفل كى تصعد خلال عقد أو عقدين على الأكثر قيادات جديدة مختلفة تتبوأ مسئوليات فى الأحزاب ومؤسسات الدولة والحكم ، إلا أن هذه الفجوة بين الشباب كمترشحين وكناخبين تظل معضلة تستحق مزيد النقاش و ابتكار حلول لها . ثالثا .. خريطة القوائم الحزبية والائتلافية الحزبية الفائزة فى «البلديات» وبما حمله كل منها من أعضاء الى مقاعد المجالس البلدية تختلط على رقعتها ملامح الاستمرار والتغيير فى النظام الحزبى مقارنة بانتخابات برلمان 2014. وهى ملامح قد تساعد فى قراءة مستقبلية لمواعيد الانتخابات الرئاسية والتشريعية نهاية 2019 .ويمكن القول بأن هذا النظام الحزبى بقى الى حد كبير محافظا على طابع الرأسين الكبيرين «النهضة» و«نداء تونس». فكلاهما معا حصد نحو نصف أصوات المقترعين . اللافت أيضا أن هذين الحزبين الكبيرين منيا بخسارة لافتة فى أعداد المصوتين . فالنهضة ومع انها استعادت مرتبة الحزب الأول من النداء واصلت نزيف مؤيديها .. وثمة جدل هنا داخل «النهضة» وخارجها عن الأسباب. وأبرز الأسباب محل النقاش تلك المتعلقة بتحولات النهضة الى الوسط والمزيد من الحداثة وإعلانها الخروج من مربع الإسلام السياسى ،وتأثير هذه التحولات على قطاعات تاريخية من كوادر النهضة وجمهورها . أما النداء فقد خرج من «البلديات» بوصفة أكبر الخاسرين . لم يفقد فقط شرعية الحزب الأول فى الاستحقاق الانتخابى الأخير. بل وأيضا تقلصت قاعدته الانتخابية الى 375 ألف صوت بعدما كانت فى تشريعية أكتوبر 2014 نحو 1٫275 مليون . أى خسر فى غضون ثلاث سنوات ونصف نحو ثلثى مؤيديه تقريبا. وهذه الخسارة من شأنها أن تعمق أزمة «النداء» وانشقاقاته منذ أن قبض حافظ السبسى ( الابن ) على مقاليد الحزب و تزعمه . ويبدو أن الحزب لم ينقذه أمام استحقاق البلديات ضم قيادته العديد من رجال الأعمال على مدى الشهور السابقة أو اعادة استدعاء أجواء الاستقطاب بين قوله بتمثيل المشروع الوطنى الحداثى فى مواجهة مشروع الدولة الدينية ممثلا فى «النهضة» الحليف فى الحكم. ولعل هذه اللحظة داخل صفوف الحزب وأنصاره تحمل شعورا أكبر بالخطر و بأن الوقت ضاغط وفى الأفق مواعيد استحقاقات نهاية 2019. والأرجح على أى حال، أن يصبح «النداء» ومعه رموزه فى الحكم والحياة الحزبية أكثر ضعفا فى مواجهة الحليف الرئيسى «النهضة» وربماأيضا أكثر تواضعا فى فرض املاءاته عليها . رابعا ..كشفت ما توصف بأكبر عملية انتخابية عرفتها تونس فى تاريخها نظرا لأعداد المرشحين و المقاعد المتنافس عليها وتعقيدات عدة عن ضعف نسبى فى أداء الهيئة العليا المستقلة للانتخابات ،وذلك مقارنة بالاستحقاقات السابقة التى ادارتها بعد الثورة. بالطبع لا يمكن المقارنة بأى انتخابات بلدية قبلها وبكيفية ادارتها..لكن هيئة الانتخابات بمجلسها الجديد مع هذه «البلديات» أصبح عرضة لانتقادات غير مسبوقة . بعضها عن حق وبدافع الحرص على سمعتها المعتبرة عربيا وعالميا وبدافع الارتقاء بأدائها مع استحقاقات 2019 .وبعضها الآخر يتدرج فى «اللامنطق» الى الرغبة فى هدم معبد الانتقال الى الديمقراطية بأسره . .والمراقب عن كثب وقرب يرى كيف تعرضت الهيئة على مدى نحو عام كامل لصراعات داخلها ولضغوط سياسية من خارجها، لكن فى المجمل يمكن القول بأن الهيئة عبرت باستحقاق « البلديات « بأهون الأضرار ،. وهى الآن أمام اختبار تصحيح . خامسا .. تبرز النتائج الجزئية التفصيلية لمقاعد كل بلدية على حدة أن أيا من القوائم سواء الحزبية أو المستقلة لم يتمكن من تحقيق أغلبية مطلقة تمكنه من الانفراد بانتخاب رئيسها أو إدارة شئونها . ولذا فإن نتائج البلديات على هذا النحو ومع حضور الشباب والمرأة بكثافة فى عضوية مجالسها تمنح التجربة التونسية فرصة كى يعمل الفرقاء معا على قضايا معيشيةمحددة تتعلق بالقرب وبالمواطن.