قبل أيام تحدث الصديق الأستاذ جورج اسحق معى مستفسرا عن بعض جوانب الانتخابات فى تونس . ويتصادف أن يوافق يوم أمس (الإثنين) مرور عام على الانتخابات البرلمانية هناك . ولحسن الحظ فإن اصدقاء تونسيين لبوا مشكورين طلبى فى ان يحملوا الى القاهرة نسخة من التقرير النهائى للهيئة العليا المستقلة للانتخابات فى بلادهم عن هذا الاستحقاق الانتخابى ومعه الرئاسي. وبداية أشير الى أن القوانين الانتخابية فى تونس جرى تصميمها على نحو يهدف الى القطيعة مع ميراث الدكتاتورية وبما يعزز فرص نمو حياة حزبية تعددية . فانتخابات المجلس التأسيسى 2011 وانتخابات برلمان 2014 جرت كاملة بالقوائم النسبية على كافة المقاعد. وفى كلا الاستحقاقين الانتخابيين حققت القوائم الحزبية والائتلافية بين الأحزاب الغلبة بشكل لافت وأمسكت بفرصه بناء نظام سياسى جديد يقوم على الأحزاب . وفى الانتخابات الأخيرة دخل البرلمان 12 قائمة حزبية و 3 إئتلافية..وأيضا 3 مستقلة فقط . وحصدت القوائم الحزبية واللائتلافية جميع مقاعد البرلمان البالغ عددها 217 مقعدا تقريبا ولم يتبق للمستقلين سوى 3 مقاعد. ولاأدل على التقدم نحو بناء حياة سياسية قائمة على الأحزاب أن نعرف بأن المجلس التأسيسى كان قد دخلته 9 قوائم مستقلة مقابل 17 حزبية وقائمة واحدة ائتلافية . وحصدت القوائم المستقلة حينها 34 مقعدا من إجمالى عدد المقاعد نفسه . ولأن اقبال الناخبين على التصويت يجيب بعض الشيء على مدى توافر بيئة ديمقراطية مواتية للعملية الانتخابية فإن انتخابات برلمان 2014 سجلت مشاركة 67 فى المائة مقابل 49 فى المائة فى انتخابات 2011. لكن هذا لا يمنع الشكوى من ضعف وانحسار اقبال الشباب الذين يشعرون بأن مطالب الثورة وبخاصة الاجتماعية لم تتحقق وينتقدون تصدر جيل كبار السن للحياة السياسية الجديدة . لكن ثمة معيار آخر لايقل أهمية . وهو النسبة التى يتسبب فيها النظام الانتخابى فى إهدار أصوات الناخبين. وهنا فان المعطيات تفيد بأن القوائم التى حصدت 20 فى المائة فقط من الأصوات الصحيحة لم تتمكن من الوصول الى مجلس عام 2011. و انخفضت هذه النسبة الى أقل من 17 فى المائة مع انتخابات 2014. ومع ان النظام الانتخابى فى تونس يشجع مشاركة المقيمين فى الخارج ويخصص لتمثيلهم 18 مقعدا فإن نسبة المقترعين تظل أقل مما هى عليه فى داخل البلاد. وثمة هنا صعوبات ومشكلات تسببت فى هذا التدنى النسبي. ولكن لأن التونسيين أخذوا تمثيل المرأة بجدية أيضا . فقد صمموا نظاما انتخابيا يقوم على التناصف والتناوب فى القائمة. وهكذا وصلت 68 سيدة الى البرلمان الحالى بعدما كان فى المجلس التأسيسى 49 نائبة. ومن يراقب تفاعلات الحياة الحزبية داخل البرلمان وخارجه بعد الثورة التونسية يمكنه ان يخرج باستنتاج مهم مفاده أن الأمر بدأ بحالة من السيولة والفوران، لكنه اتجه لاحقا الى نوع من الاستقرار والتماسك . ونستدل على هذا الاستنتاج من أعداد الموقعين على وثائق اساسية حاكمة فى تطور النظام السياسى .فوثيقة الانتقال الديمقراطى سبتمبر 2011 وقع عليها 11 حزبا فيما ارتفع عدد الأحزاب الموقعة على وثيقة خارطة الطريق أكتوبر 2013 الى أكثر من 20 حزبا. كما أن خريطة التكتلات النيابية للأحزاب داخل المجلس التأسيسى (أكتوبر 2011 نوفمبر 2014) سرعان ما اختلفت عما كانت عليه لحظة انتخاب المجلس. وهذا بفعل الانشقاقات داخل بعض الأحزاب وسياحة النواب من حزب أو تكتل نيابى لآخر . الآن وبعد مضى عام على انتخاب برلمان 2014 فإن الخريطة هذه تعرف استقرارا ملحوظا . ويقوم النظام السياسى الحزبى الذى أسفرت عنه الانتخابات التشريعية فى 26 أكتوبر 2014 على حزبين رئيسيين «نداء تونس» و«النهضة»، وقد إئتلفا مع حزبين كبيرين آخرين ليشكلا حكومة توافق. وتركا معارضة محدودة فى البرلمان (38 نائبا) يتقدمها ائتلاف لأحزاب اليسار (الجبهة الشعبية). لكن هذا النظام الذى يبدو الى حينه مستقرا مقارنة بتجربة المجلس التأسيسى لا ينعم بالخلود فى الجنة أو يمنح التونسيين المن والسلوى . وثمة هنا احتمالات تطل على المستقبل جراء صراعات داخل الحزبين الكبيرين وبالتحديد حزب الأكثرية «النداء».وهناك أيضا انتقادات نتيجة عيوب فى تصميم النظام السياسى والممارسة .والأهم تلك المتعلقة باهدار تحقيق مطالب الثورة الاجتماعية وبمظاهر نشأة نظام للمحاصصة الحزبية فى وظائف الدولة العليا وبجناية تحالف الشيخين السبسى والغنوشى على تطور الحياة السياسية وعودة النفوذ الاقتصادى السياسى لرأسمالية محاسيب حكم الدكتاتور بن على كما هو الحال بشأن قانون المصالحة مع رجال الأعمال . لكن فى كل الأحوال ثمة أمل فى نمو قوة حزبية خارج نظام الحزبين المؤتلفين هذا . وقد يندهش القارئ كصديقنا جورج إسحق عندما يعلم بأن الهيئة العليا المشرفة على الانتخابات لا يرأسها قاض. بل ان غالبية اعضائها من غير القضاة (سبعة من إجمالى تسعة). وهو أمر ينطبق على الهيئات الفرعية فى الولايات فسيدى بوزيد مثلا يرأس هيئتها استاذ جامعى تماما كرئيس العليا. وفى كل الأحوال فان الثقة متوافرة وعالية فى المشرفين على العملية الانتخابية. وهذا لأن طريقة انتخاب واختيار الهيئة وفروعها خضعت لآليات وضوابط تراعى الحيادية والنزاهة والشفافية والاحترافية وتكامل الخبرات. [email protected] لمزيد من مقالات كارم يحيى