تغيرت ملامح الإدارة الأمريكية منذ مغادرة أوباما البيت الأبيض، ورغم أن التناقض في شكل وأسلوب إدارة الولاياتالمتحدة وعلاقاتها الدولية مختلف أشد الاختلاف بين (أوباما) و(ترامب)، إلا أن جوهر سياساتهما الخارجية متشابه في أمور عدة، منها أولوية (بحر الصين) على كل ما عداه. ولقد كانت تغريدات وتصريحات ترامب قبل وصوله للحكم بشأن سوريا متقاربة في المحتوي مع قرارات أوباما أكثر مما يظن البعض. ويستطيع المرء أن يزعم أن البحث في هذا الأمر ضروري لاستيعاب أجواء وخلفيات قرارات ليلة الجمعة الثالث عشر من أبريل بقصف سوريا بالصواريخ. فالضربة الصاروخية جاءت محدودة وكأنها ما كانت. وفي واقع الأمر إن قرار تقليص حجم الضربة لسوريا يتشابه مع قرار أوباما بعدم ضرب سوريا عام 2013. كانت أجواء قرارات (أوباما) بالتراجع عن ضرب سوريا في أغسطس 2013 قد وصفت بدقة في مقال بعنوان (نهج أوباما) نشر في أبريل 2016 بدورية (الأتلانتيك) الأمريكية. فلقد تداولت وسائل الأنباء حينها اتهامات للدولة السورية باستخدام الغاز الكيماوي في منطقة الغوطة الشرقية. وكان وزير الخارجية الأمريكي حينها جون كيري يجوب العالم، مؤكدا أن الضربة قادمة. ولكن ما حدث في غرفة إدارة الأزمة في البيت الأبيض غير مسار الاحداث فلقد اصر أوباما على أن المعلومات بشأن تورط الدولة السورية قد تكون قد دست بهدف إشعال فتيل حرب. تراجع أوباما في اللحظة الأخيرة بعد أن اقتنع بأن ما حدث في الغوطة كان (كمينا) تم إعداده لدفعه للحرب. هكذا رفض أوباما إطلاق الصواريخ وهو ما تعده قوى عديدة كارثة سياسية يطلقون عليها منذ ذلك الحين (الثمن الباهظ لعدم التدخل أو ثمن السلبية السياسية لأوباما). تلك القوى هي مصفوفات أمريكية تمتد حول العالم لتضم دولاً بأكملها كقطر وإسرائيل وأركانا عسكرية وسياسية وإعلامية ليبرالية ويسارية مهمة من دول أوروبية كفرنسا وانجلترا. كان سقوط سوريا قاب قوسين أو أدنى، ولكن أوباما في نظرهم تردد فضاعت الفرصة التاريخية لإعادة ترتيب الشرق الأوسط. تغيرت الأمور كثيرا منذ عام 2013 وتعقدت الأزمة السورية وكان التغيير الأعظم دخول روسيا بقواتها إلى سوريا ذاتها وتغير الإستراتيجية الروسية وتبنيها نهجا متشددا باستشعارها وتأكدها من فشل وترنح المشروع الغربي في سوريا. فماذا حدث إذن في المعركة الأخيرة في أبريل 2018، وكيف تتقارب أو تبتعد من أحداث ليلة الثلاثين من أغسطس 2013 في عهد أوباما؟ بدأ الإعداد لمسرح العمليات بتصاعد قصة الاعتداء على عميل روسي يعيش في بريطانيا بغاز سام في 4 مارس 2018. تصاعد التوتر بين بريطانياوروسيا مع تركيز إعلامي وسياسي واضح على استخدام ألفاظ وتعبيرات الأسلحة الكيماوية المحرمة. ووسط تلك الحملة الواسعة المنصبة على روسيا والتي تعد الرأي العام العالمي (لمواجهة ما) ظهرت تهمة استخدام الغاز المجرم في الغوطة في سوريا مرة أخرى، بذات التقنيات الصحفية كما حدث في 2013. إلا أن تطورا مهما قد حدث في ليلة 10 أبريل 2018 وهو أن موظفا روسيا أعلن أن روسيا ستضرب الصواريخ وقواعد الصواريخ. كان هذا الموظف هو سفير روسيا في بيروت الذي طيرت وسائل الإعلام تصريحاته، فبدأ على الفور ظهور العسكريين في وسائل الإعلام الغربية يحاولون فك شفرة التصريح الروسي الخطيرالذي وصفوه بأنه ليس تهديدا بل إنذار! وأن المعركة قد تحمل تداعيات خطيرة كضرب القاعدة العسكرية في قبرص والغواصات التي تطلق الصواريخ. أعلن العسكريون تبرؤهم من تداعيات الأزمة السياسية التي دُفِعوا دفعا إليها بمصفوفات ترفض الاعتراف بأن الواقع وموازين القوى قد تغيرت. وهكذا فإن الضربة الغربية تقلصت فأتت محدودة للغاية وكأنما كان الهدف منها حفظ ماء وجه الساسة الغربيين. تراجع السياسيون والعسكريون أمام إنذار روسي فقاموا بضربة محدودة أطلقوا فيها مائة صاروخ وصل منها لأهدافه ثلاثون فقط. فماذا بعد؟ هل تلك نهاية الحرب الضروس في سوريا وبلاد الشام أم أن الحماقة تعيي من يداويها ففي الأيام السابقة زار الرئيس الفرنسي ماكرون الرئيس ترامب وصاحبت الزيارة تصريحات فجة عن نقل الأموال لأمريكا؟ فلماذا ماكرون تحديدا؟ فهل لفرنسا دور جديد فيما هو قادم من أحداث؟. لقد فشلت الضغوط لإسقاط سوريا ولتحقيق مصالح إسرائيل في تفكيك حلف حزب الله وإيران وسوريا، وتحولت هذه العملية لعملية مستحيلة بعد دخول الحلف الصيني الروسي المعركة بما له من قدرات وحنكة سياسية وعسكرية ومالية. لذلك فإن الانفراج المطلوب الآن حتمي ولكنه قد لا يكون على هوى قوى أمريكية ولا يتوافق مع مزاج قوى أوروبية، ولكن ترامب يتلافى التورط في الحرب ويتصرف كرجل أعمال يتبنى المواقف المتشددة لتساعده للحصول على ما يبتغيه كمفاوض كما حدث قبل الانهماك في مفاوضات السلام الكورية. لمزيد من مقالات ◀ د. حازم الرفاعى