مع بروز محمد على باشا وتوليه السلطة فى مصر – 1805- 1849، بدأت المرحلة الأهم والجديدة من تاريخ التحولات الاجتماعية والسياسية، التى عرفتها الدولة العثمانية فى شبكة علاقاتها ليس فقط الداخلية مع رعاياها وامتدادات نفوذها، وإنما أيضاً فى علاقاتها الخارجية. وفيما إذا كانت قد بدأت المحاولات الأولى لنمو حركات استقلالية فى أكثر من مكان تسيطر عليه الخلافة، ترافق ذلك مع حركات تمرد وثورات فى الولايات العربية المشرقية، سوريا، لبنان، فلسطين، فإن الخلافة ذاتها المنهارة والتابعة لم تصبح فقط تحت رحمة المشروع الغربى الإنجليزى- الفرنسى، بل أيضاً تحت رحمة مشروع آخر، مشروع محمد على باشا، حيث الخلافة كانت قد اعتمدت عليه، وبالتالى على قدرات الجيش المصرى لمواجهة تمردات الأعداء المتربصين بها فى داخل الخلافة وخارجها. ............................. وفى حين أن مشروع محمد على كان يحاول التكيف مع الموازين التى فرضتها المصالح الاستعمارية مع الخلافة، إلا أن إبراهيم باشا، كان قد تبلور لديه مشروع مختلف فى تفاصيله وفى أهدافه عن مشروع والده. لقد أصبح الجيش المصرى يسيطر على الولايات العربية فى المشرق، بل على مناطق واسعة من الدولة العثمانية ذاتها. لذا، بدأ إبراهيم يمارس نهجاً لا يمكن وصفه، إلا أنه يهدف إلى اتحاد مصر مع جناحها المشرقى المكمل لجسدها، وغير المنفصل عنه. فمصر دون الولايات المشرقية جسد مشوه وعليل، وهكذا هو وضع الولايات المشرقية التى تعانى الخلافة والسياسة العنصرية التى تمارسها، خاصة فى المناطق التى لا يتكلم سكانها اللغة التركية. لقد بدأ هناك تباين بين مشروع محمد على ومشروع إبراهيم الذى كان يريد إسقاط الخلافة تمهيداً لاستقلالية القرار المصرى. إن الخلافة التى أخذت تعانى هرمها وضعفها،بدأ جسمها الهزيل المفكك بفعل تدهور قوتها، وبفعل قوة خصومها، خاصة المستعمرين منهم – إنجلتراوفرنسا – اللذين بدآ يفرضان حضورهما الاستعمارى، وكانت الامتيازات التى (تكرمت بها الخلافة وقدمتها لهما) من المبررات التى ساعدت تدريجياً على فرض شروط وجودهما الاستعمارى. تلك الامتيازات التى ساهمت فى تفكيك جسم الخلافة وتقسيمها إرباً بين أعدائها، ومن المبررات أيضاً التى ساهمت إضافة لذلك والتى استغلتها الدول الاستعمارية، النظام المللى الذى يقسم الخلافة، لا على الأسس الاجتماعية والطبقية، بل على أسسِ طائفية وعرقية. إذن، بدأ يبرز فى الخلافة تياران، الأول تيار استعمارى، هو ما كان يسعى لتحقيق أهدافه تدريجياً، وقد حقق كل ما يريد بعد الحرب العالمية الأولى، وتيار داخلى عربى، أخذ يتبلور أيضاً تدريجياً، وإن كانت مشاكل هذا التيار مختلفة عن المشاكل والمصاعب التى يتعرض لها المشروع الاستعمارى. إن مشروع محمد على بجانبه الأساسى الذى يتقاطع مع المصالح الفرنسية، كان هناك خلل داخله، فمحمد على باشا له حساباته فى علاقاته مع الخلافة، ومع الدول الغربية، وإبراهيم باشا، ابن محمد على، له مشروعه الذى يلتقى فى بعض تفاصيله مع مشروع والده، إلا أنه يختلف فى تفاصيله الأساسية، ليس فقط فى الكيفية التى يتعامل بها مع الخلافةالعثمانية، أيضاً مع القوى الاستعمارية التى بدأت حرباً عليه، مباشرة ًحيناً، وبالوكالة حيناً، حيث كانت تحرك عملاءها لإضعافه وإحباط مخططاته حيناً آخر. لقد استمر النظام المللى فى صيغته العثمانية وما أدخله إليه الاستعمار الإنجليزى – الفرنسى، حينما قاما بعد الحرب العالمية الأولى بتقسيم المنطقة على أسس عرقية وطائفية، ومرجعيتهما ليس فقط الامتيازات التى حصلوا عليها من الخلافة، بل أيضاً النظام المللى. إذ يبدو اليوم، ومن خلال الأحداث التى تمر بها المنطقة العربية، حيث تحاول الأجيال الجديدة، رسم صورة مستقبلها، إن التشريعات الموروثة عن الخلافة، وما يقابلها من امتيازات أعطيت للمستعمرين لازالت تشكل الخطر الداهم وليس لبنان بمفرده هو من يعانى من هذا المرض، بل كل الدول العربية دون استثناء. وها هى العراقوسوريا واليمن وليبيا والسودان من النماذج الساطعة والمتجذرة بها تلك الرواسب من النظام المللى الذى يمرر تحت مسمى من أن دين الدولة الإسلام، أوتحت مسميات أخرى، وبهذه الثقافة يتم بلبلة مفهوم الهوية، ليس فقط من أن هذه الدول هى عربية، بل أيضاً إلغاء النزعة الإنسانية والمساواتية بين مكونات المجتمع العربى. وها هى فلسطين تبدو من النماذج الساطعة التى يمكن القول أنها تعانى من هذا المرض، فالمشاريع التى تتحدث عن دولتين للشعب الفلسطينى، ليست فى النتيجة النهائية سوى أنها تقدم تبريراً لما يطرحه الكيان الصهيونى حول الدولة اليهودية، فى حين فى المقابل يطرح الطرف الثانى دولة إسلامية خاصة بالمسلمين الفلسطينيين. العلمانية والمجتمع المدنى فى عصر محمد علي لقد اعترف عبد الرحمن الجبرتى، المؤرخ المصرى المنفتح بحدود والمحافظ التقليدى بحدود، من أن الحملة الفرنسية كانت جلبت معها (المفيد والسيئ). ومن الأشياء المفيدة مرافقة عشرات العلماء الفرنسيين لنابليون فى رحلته، ودراساتهم التى قدموها فيما بعد حول الواقع المصرى. تلك الدراسات التى كان لها أثرً كبير، حيث أنها لازالت مرجعاً علمياً للباحثين، كما أشار الجبرتى إلى أهمية إنشاء الأكاديمية العلمية فى حى الناصرية فى القاهرة. وفى لفتة ذكية كان قد ميز بين عدل القضاة العثمانيين وعدل القضاة الفرنسيين، فرأى أن القضاة الفرنسيين فى أحكامهم هم الأقرب إلى العدل من القضاة العثمانيين. يتبين من عرضنا هذا، أن النخب المصرية التى تحكمها الشرائع الدينية الشبه إقطاعية، كانت قد ميزت بين وجهى الحملة، السلبى منها والإيجابى. ومن المآخذ التى اعتبرها الجبرتى سلبية، أن الفرنسيين محتلون، وبالتالى يجب على الشعب المصرى محاربتهم، وهذا ما قام به الشعب، حيث تم مواجهة الحملة (الغزاة) مكبداً الفرنسيين آلاف القتلى، ومكبداً الشعب المصرى الآلاف (تجاوزت خسائر المصريين خمسة وعشرين ألف شهيد)، كما انتقد الجبرتى المؤثرات الأخلاقية التى تركتها الحملة، خاصة لجهة علاقة الرجل بالمرأة. لقد رأى أن شريحة من النساء بدأت بتقليد المرأة الفرنسية لناحية التبرج، فالمرأة المصرية خرجت من عزلتها مختلطة بالمجتمع. مارست الرقص فى الملاهى، وبهذا الانفتاح تعرفت المرأة على ما كان محرماَ عليها أن تعرفه، خاصة فى علاقاتها بالرجل. يضيف الجبرتى منتقداً الفرنسيين الذين لا يدينون بأى دين، ويقولون بالحرية والتسوية. لقد أحدثت حملة نابليون على ما يضيف الجبرتى انقلاباً لم يمس المجتمع المدنى المصرى فقط، بل أهمية ما طالته مؤثرات الحملة شريحة العلماء فى المؤسسة الدينية، أى الأزهر. وبهذا الوصف فإن الحملة قد كانت مؤثراتها جماعية لا فردية، خاصة أن المصريين بعد انهزام الحملة كانوايتلقفون تداعياتها على المجتمع. ويضيف الجبرتى فى وصفه لتلك التداعيات أن المصريين جنحوا بعد انهزام الحملة إلى التمسك بفكر دينى عدمى لا يسلك مسلكاً أتى به الشرع، إنما رسا مسلكهم على نوع من الاستكانة الروحية المرئية فى محتوى غيبى فى صورة تصوف سلبى جامد لا يتحرك، واعتقاد فى كرامات البلهاء والمعتوهين والمقبورين، وأضاف أن المستعمرين ساعدوا على انتشار البغاء وعلى السفور عند النساء، كما ساعدت مؤثرات الحملة على الاختلاط، خاصة فى المدارس، وهذا ما أوجد نزعة تمرد على التقاليد الموروثة التى بدأت تظهر فى اللباس.وبهذا كانت الحملة قد خرقت الأعراف الإسلامية. فى حين كان حسن العطار – الأب الروحى لرفاعة الطهطاوى – قد أشاد بالمؤثرات التى أحدثتها الحملة، والعطار، هو من كان مؤمناً بضرورة الأخذ بالعلوم الغربية وتوطينها فى المجتمع المصرى، وهذا ما عمل على تحقيقه محمد على، وإن كان بأساليب وطرق حملت فى مضامينها رواسب الثقافة العثمانية شبه الإقطاعية –السُّخرة – التجنيد الإجبارى – مصادرة الأراضى وتملك الدولة لها. أما رفاعة الطهطاوى الذى يوصف بأنه «علمانى المقصد والتوجه» فقد كان قد عبر عن موقفه بقوله «من أن العلمانية لا تعنى فقط فصل الدين عن الدولة، بل تعنى أيضاً اتخاذ الأساليب والمسالك غير الدينية فى السعى إلى النهضة والتقدم والتماسهما عن طريق علمانى». راجع كتاب جذور العلمانية للدكتور السيد أحمد فرج_ دار الوفاء للنشر – طبعة 5 – 1993. نجد ونحن نتابع بعض الأدبيات التى أرّخت للأوضاع الاجتماعية والسياسية للحملة الفرنسية على مصر، أنه كان للحملة مؤثرات خطيرة على العادات والتقاليد المصرية، يقول الأفغاني: «أن الفرنسيين يقصرون الوجود على الطبيعة المتطورة، فالطبيعة مستكفية بنفسها مستغنية عن خالق يوجدها». بينما يقول الجبرتى، وهو فى قمة يأسه، لقد فشلت الحملة الفرنسية، ولكن الاستعمار استطاع تحقيق أهدافه عن طريق المسلمين، يقصد عن طريق محمد على، حيث سيطر المستعمرون على الشرق وحطموا الخلافة. فمشروع محمد على فى معظم تفاصيله يحمل مؤثرات عبر فيها معتنقوها عن التوجهات العلمانية المستقاة من روح الثورة الفرنسية (1789). ولا عجب أن رأينا أن المسئولين عن إدارة محمد على كانوا بمعظمهم من الدولة العثمانية، أو فرنسيين، وإن كان بعضهم من جنسيات أخرى، إلا أنهم كانوا قد تلقوا تعليمهم فى فرنسا. فضلاً عن أن إدارة الجيش المصرى كانت تدار من قبل ضباط فرنسيين أو متأثرين بفرنسا وعلى علاقة إيجابية معها. لقد قدمت فرنسا لمحمد على، وبسخاء كل ما كان يريده لتحديث الجيش والإدارة أيضاً. وبهذا فقد تقاطع مشروع محمد على مع المصالح الفرنسية، إذ كان محمد على فى تبنيه ونقله للتجربة الفرنسية فى السياسة، أن حاول نقل التشريعات الآيلة لإنهاء الأعراف الدينية وإحلال محلها تشريعات دنيوية علمانية مأخوذة عن القوانين الفرنسية. وبهذا يكون محمد على، بما عمل له وحققه على هذا الصعيد قد سبق كمال أتاتورك فى تبنيه للعلمانية التى أخذ بها الأخير بعد إنشاء الجمهورية التركية عام 1928. فى حين أن محمد على كان قد أخذ بتنفيذ هذه التشريعات فى الربع الأول من القرن التاسع عشر. إن أفكار الثورة الفرنسية كانت قد ساعدت فى خلق فكر أوروبى – عالمى جديد - فكر قائم على مبادئ الحرية وحقوق الإنسان، وبالتالى على تأسيس أرضية ثقافية وتشريعية مأخوذة ومعبرة عن قضايا المجتمع، فالإنسان يصنع بنفسه عالمه. وهذا ما تسرب إلى مصر وأصبح واقعاً فى عصر محمد على. وحيث الفرنسيين الذين ساعدوا محمد على لتحقيق ما قام به، هم ذاتهم تحالفوا مع أعدائهم - المنافسين لهم - الإنجليز لضرب وإنهاء هذا المشروع، وهذا ما تحقق فى مصربعد عام 1840.